زرعنا سبعين سنة دأباً، حصدوا الحَبّ ولم يذروه في السُّنبل، باعوا السُّنبل والتراب، بتروا الأفواه بعد صمتٍ حتى لا تجوع، لم تُدبِر الشداد حتى تأتي، فهي بين الظهرانَين "أزلاً"، قدّموا لها أطرافنا وما حصَنوا كرامة ولا رَقَبوا إلًّا، صلبونا في المساطِح والمسارح ليخضم الطير من رؤوسنا فيسقي رب النعمة واللعنة خمر الجسد، قُضي الأمر وما استفتينا، فلبثنا في الموت بضع سنين.
ضُربنا على الآذان والآثار في الغار سنين عدداً وعجباً، تركنا رَحابة الإيمان إلى كهف الخوف المدبَّج بالمُروق، حملنا قميصنا المُضَمَّخ بدم الخنوع القاني، وأنشأنا نردّد:
ظُلِمْنا في الحياة ولَمْ نبالِ ** وقُدِّمنا بِشِسْع لِلنِّعَالِ
ونام الكادِحون بِها جياعاً ** ليَسمَن بطن أصحاب المعالي
وبالتَّبْجيل يُوسم كل صفرٍ ** وبالتحقير يحظى كلُّ غَالِ
نهيق الظلم مزهوّاً يُدَوِي ** وصوت الحق مقطوعُ الحِبالِ
"ثم يأتي بعد ذلك عامٌ فيه يُغاث وفيه يَعصِرُون".
تلقّينا الصّفعة بما فَضَل من حسٍّ، عادت الدماء إلى عروق أصابها الجفاء بالجفاف، ثم صدعنا بما نجا من صَريف غافَلَ "شَفرة" الرّقيب: "الآن حصحص الحق"، بَخعْنا النفس على آثارها الجُرز، راودنا الواقع عن نفسه بعد الغيث وعصَرنا، خرجنا من الكهف القديم وبعثنا الورِق فعاد الصدى: "في الخارج حرية أزكى من الندى والكلأ".
آمنّا بأن الدموع على القميص لن تعيد الجسد، وبأن الصمت بعد الصفع موت، والرضا بعد الشرارة عار، حملنا النعش والخوف إلى المثوى، وأدناهما وعُدنا نطلب الجاني فلا والي للدم إلانا، رحنا نخاطب بعضنا: يا ثاوياً يا ذارفاً دمع القتيل بزاوية.
كفكف دموعك وانتفضْ ** واصْدَع برأيك واعترضْ
وابعث حروفك خِنجراً ** بالوخز خصمك يتعضْ
والعن رُهابك ساعةً **وَدَعِ التردد وامتعضْ
واشحذ يراعك واللسانْ ** واكتبْ على صُحفِ الزمانْ
ما دام في حبْلي دمٌ ** عِرق الطغاةِ سينقرضْ
زلزلنا "الحبيب" فخرّت قرطاج فوق "المهدِّد"، رجَجْنا "التحرير" فهوى الفرعون وما ولد، صمدنا في "التغيير" فاسود وجه "الصالح"، دككنا "العزيزيّة" فصُرع "المعَمّر"، ثم مضينا نصدع في كل شبر: لن نرضى بالذل فجدار الخوف خرَّ، وزمن الحساب حلَّ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
"وما أكثر الناس ولو حرصت بثائرين"
لملم "هُبَل" المكسور شظاياه، بعث في المدائن فتقاطر الكُهّان والعُبّاد والسّحرة، سحروا الأعين والخَلق ودَعَوا إلى الكفر بحرية "الشرذمة"، ارتد المرتابون والهارعون، أعدوا ما استطاعوا من قوة وهووا على "الفتية" ومن "آمن" معهم، قطعوا الأوداج وبتروا الأطراف ومزّقوا الثرى والوطن.
فهل نكفر؟
ظهَرَ الظالمون ورجموا، بتروا وبقروا.. فهل نعود في مِلّتهم بعد أن نجانا الله منها؟ هل نصنع "مناة" أخرى بسواعِدَ شجّت "اللات" و"هبل"؟ هل نحني قامات حديثةَ العهد بالاستقامة؟ هل نُطْبق ثَلْمَ حريةٍ فطيمةٍ لم تصِحْ إلا قليلاً؟ وهل نحيا عِجافَ الذل والعار بعد عام العصْر؟ وهل نقبل الجوهرة ديّة عن عَينين فقأهما المِخزق؟.. وهل نرضى وهل نرجو وهل نكفر؟
كلا ورب الكلمات، لو كان البحر مداداً لحملنا اليراع قبل النفاد لنَخُطّ على "صخرة كُليب": "سنظل نستنشق الأمل المحاط بمتاريس العز.. نحيا لحظاتِ كرامةٍ ضاقت بها جنبات الوطن فنفتها خارج الأرض والزمن.. نُرجع البصر كَرّتين ينقلب إلينا محمَّلاً بنفحاتِ حريةٍ تنطلق من خلف جدارٍ عال.. سمو.. سؤدد.. بقايا حق، وفاه تَوجّه صوب السماءِ ينادي بصوت شجي: قسماً لن نبيع.. قسماً لن نكفر".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.