لماذا نهرب من المغرب؟.. تدوينة شاب فقد رفاق قريته في قارب مطاطي

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/17 الساعة 01:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/17 الساعة 01:25 بتوقيت غرينتش

كثيرة هي مراحل الحياة التي نمر منها منذ الطفولة، لكننا لا نفهم إلا ما نستطيع فهمه من آليات إدراك مناسبة لعمرنا، وشوطه الراغب في متطلبات بسيطة تبدأ في التعقيد كلما كبرنا، لم نكن ندري أننا سنحمل هماً ولم نكن نعلم أننا سنشكو غماً، ومع كل ألم طعنة ممن لهم سلطة القرار نقول شكراً، ونتابع مسير الزمن.

لعلني ما زلت أتذكر تلك السنة، كان ذلك عام ثمانية وتسعين وتسعمائة وألف، حينما كان عمري 11 سنة وزُرت ضيعة جدي في بوادي مراكش، كان خالي الأصغر يصحبني رفيقاً، ربما لأنني أتفاهم معه لتقارب السن، ويشاطرني أفكاره الجهنمية، وذات صباح سمعته يكلم أحد أصدقائه من دواوير مجاورة عن الهجرة للعمل خارج الوطن بطريقة غير قانونية، وعلى الرغم من شرحه لي لم أستوعب، لماذا هذه المخاطرة كلها؟ وما الدافع لذلك؟ ولا سيما أن تجربته الحياتية حينها وفي هذه الخطوة بالتحديد كانت مُرة بأحداثها، فمعظم أصدقائه بالدوار قضوا تحت المياه المتوسطية، تجربة هروب ظلت محفورة بذاكرتي تلازمني وأنا أتقدم في العمر، لكنها لا تختلف كثيراً عن تجارب هروب لأناس وضعوا حياتهم على حافة الموت لقساوة الوجهة، ولعشقي للسؤال كثيرة هي الساعات التي أفكر فيها وأحاول ربط الخيوط؛ ليبقى السؤال: لماذا الهروب؟!

يجب الإجابة عن هذا السؤال، لكن ليس بالسطحي والسريع الجاهز، لذا فكروا ملياً، فربما وجهة الهارب أقسى مما نظن بعيداً عن أجوبة البحث عن العيش الكريم.

للهروب من وطني أشكاله كما تعددت مطارحه، ففي مدينة طانطان الواقعة جنوب البلاد، بلدة بمجرد دخولك لها تحس كأن دبابات مرت من هناك والحرب حديثة الانطفاء، جراء لعنة أصحاب القرار، وكذا نسيانها من الشريط التنموي، هي حاضرة عرفت تجربة هروب لشابين؛ الأول شاب مهذب ومثقف ابتسامته لا تفارقه، يحظى بحب الجميع تم منعه من السفر لسوريا في آخر دقائق إقلاع طائرته، والتي كان سفرها محدد الهدف، وهو الانضمام لما بات يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام "داعش"، وليس بعيداً في نفس المدينة والحي أيضاً، عاشت الساكنة وتناقلت الأخبار الصادمة لهروب فتاة في ربيع العمر إلى مستنقع الشرق.

بدأت رحلة هذه الزهرة حينما ركبت طائرة صوب تركيا، قبل أن يتم نقلها بسيارات رباعية الدفع، وعبور الحدود التركية إلى المجهول، الوجهة كانت محافظة "دير الزور"، شرق سوريا، على عرض الفرات، هناك تحكي عن واقع لا علاقة له بأي إسلام ولا دين أو ملة، مما اضطرها لأن تعاود أدراجها، بكت وروت، فالموت كان متسامحاً معها هذه المرة، والأقدار شاءت لصالحها، تسرد الشابة تفاصيلَ عن جحيم العودة صحبة فتيات وشباب كثر، كان رجوعاً مرعباً على أنغام رصاص القوات الكردية فوق رؤوسهم، وبعده رصاص جيش الحدود التركية، ربما هذه المرة إلى بر الأمان.

وطني يعيش نزيف الشباب لحد الموت، وما زال النزيف مستمراً، كأن المواطن فيه لا يزيد قيمة عن جرذ أو ذبابة، ليبقى السؤال ملازماً ضجيج الذهن، فبعد أن اشتدت نار الرقعة المشرقية بحربها وبدأ النزوح غرباً، فضل الكثرة من أقراني تمثيل دور لاجئ والتسلل مع اللاجئين السوريين للعبور إلى القارة العجوز، لماذا اختاروا تجربة طريق الهلاك دون البقاء بهذا الوطن؟

لا أستطيع أن أخفي اندهاشي وصدمة الاستيعاب، إثر مشاهدتي لأحد أشرطة الفيديو لشباب من مدينة الدار البيضاء، الذي يجيب عن الكثير، ولا سيما في اللحظة التي حكوا فيها عن صديقهم المنحدر من مدينة الناظور، شاب في ريعان العمر لقي حتفه في غابات مقدونيا بين فكَّي تمساح ضخم، وهم في طريقهم هروباً للوصول إلى ألمانيا، لا من سائل ولا مستفسر، قبل أن يسترسل الشابان في محتوى الشريط بطلب للسلطات المغربية، أن تتركهما وشأنهما ولا يتم الترحيل، فهما على حد القول لا يريدون شيئاً من الوطن، سوى أن يعيشا في سلام هناك، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الهروب؟ هل فعلاً ما يحملونه من عطف في صدورهم لا يزال يحب هذه الأرض.. أو يحب هذا الوطن؟ بل لماذا الهروب من الوطن؟

هذا إن لم نتحدث عمن التحق بجماعات تكفيرية بتنوعها، ومنها ما صار اليوم معروفا باسم "داعش" حتى أصبح الصبية والشباب يسهمون في رسم خطط إرهابية لأذية الوطن، والتآمر على الوطن، سواء من الداخل أو الخارج، وما تبثه القنوات الوطنية والدولية لتفكيك خلايا إرهابية كثيرة خير دليل على كل ما سبق ذكره، وهذه فقط تراجيديا واحدة من مائة أو ألف، أتدرون لماذا؟

لا لشيء، فقط لأن خبث السلطة بوطني يحمل في طياته أنانية وجشعاً متوحشاً يجود بالعظام فقط، وينتج لمن هم أسفل التسلسل مرارة اجتماعية ونفسية ومادية، ستعود بحصتها الأكبر ليتذوقها السياسي بتمظهرات أخرى وأخطر، ابتداء من الخوف على الأمن بالبلد من أبناء البلد، وهذا هو المضحك المبكي، لمَ لا فالكعكة من صنع يديك أيها السياسي، أما هؤلاء الأبرياء فاللعنة التي حلت بهم لم تكن من وحي خطاياهم، هم فقط قربان بديل لمن ارتكب الخطايا، وخلاصهم وهروبهم المتتالي، رغبة في تقديم الوطن ومن سرق الأحلام أولى قرابين الانتقام؛ ليظل سؤالي معلقاً: هل حقاً تستحق براعمنا كل هذا العذاب؟ هل نستحق فعلاً جحيماً أكثر في هروب أخير؟!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد