لأننا كلنا غرباء، نظل نبحث عن أنفسها، ونعتبر الآخرين وطناً ما يمسي حتى يصبح لنا منفى نضيع فيه جزءاً منا.. في كل تجربة نترك قلباً.. إحساساً.. أملاً وحتى ألماً..
نترك معطفاً للذكرى وقلماً يشهد أنه يوماً ما كانوا هنا، ولكنهم غادرونا ليسكنوا غيرنا.. لأوقات لن نعيشها مجدداً مع أعز أصدقاء هم اليوم معارف نبادلهم السلام دون التوقف في الشارع، كأن ما جمعنا سوى الوهم.. لأولاد سميناهم قبل أن يولدوا مع أحبة هم اليوم أعداء أو فقط غرباء لم نسامح أنفسنا بعدهم على تلك السذاجة التي رسمنا فيها مستقبلاً مشتركاً حضر فيه كل شيء غير الفراق.. لزملاء تقاسمنا معهم الحياة لسنوات طوال، ولم يبقَ منهم غير خربشات على أوراق دراسة بالية تشهد على الصراع الذي عشناه للظفر بشهادة النجاح الدراسية، على الرغم من أن جُلنا فشل في النجاح في الحياة.
أذكر أننا كنا في مقتبل العمر، شباب في الثامنة عشرة وحتى أصغر، قرابة مائتي روح حالمة للحياة وما ستحمله الحياة الجامعية من آمال وأحلام، وجوه من كل الجهات، وأعين تحمل ألف معنى ومعنى، تحمل معها الوطن والعائلة، حملت متاع الذكرى وحطت في هذه المدينة الجديدة، لقد كانت المدينة اسماً على مسمى لجلنا، كلنا قدمنا لنعيش شيئاً جديداً ولم نضع الألم والخيبة الموجعة ضمن الاحتمالات، وها نحن بعد خمس سنوات عايشنا الكثير وفقدنا الكثير والكثير، كبرنا وكبرت الهموم معنا؛ لننجرف في سباق الزمن، ولم ندرك أن النهاية قد تكون أقرب مما نتوقع.
خمس سنوات رحلة انسحب منها البعض في بداية المشوار، والبعض حمل ما تبقى من أمل وغادر إلى مكان آخر، على الرغم من كل المشاحنات والمعاناة التي عشناها مع الدراسة والامتحانات الجامعية وحتى تلك الشخصية التي كانت تستنزف منا دماءنا وحلمنا في صمت، وحدنا نكتم الآه بداخلنا كي نبتسم في الصباح ونحن على الأبواب، بعد كل هذا العمر.
أدركنا للتو أن لكل منا معركته الداخلية التي عايشها وحارب فيها وحده، الموجع هو أننا فقدنا البعض في هذه الحرب النفسية، الحصيلة مؤلمة لحد النحيب وإعلان الحداد، 3 أرواح قضت ولم تغادرنا إلى مدينة جديدة أو حتى دولة أخرى، غادروا إلى دار البقاء لكل طريقته.
واحد آمن بوهم النصرة وبناء دولة الدين والتدين، ونسي أن الإنسانية ديانة الجميع، فكان قتيل العراق، وترك أماً مكلومة كان أكبر أحلامها أن تراه في حفل التخرج، لكنه حاد عن الطريق، وكان ضحية تجار الموت، وواحدة عاشت حرباً نفسية حملت سرها معها إلى القبر، لم تجمعنا بها سوى أشهر قليلة، لكن انتحارها جعلنا نتوقف قليلاً؛ كي نتأمل دواخلنا، كي نعي أن النفس البشرية أضعف مما نتخيل.
هنالك رمش واحد يفصل الاتزان عن الجنون المطلق، ريح خفيفة قادرة على أن تقلب كل موازيننا ونسقط في الهاوية، بلا رجعة، إنه طيف الموت الذي يداهمنا وسط الضحكات العالية، فتضحي الأخيرة دموعاً ساخنة تسقي زهر الشجن، والسنة الأخيرة خطفت روحاً أخرى لم تكن تؤمن إلا بالعمل مخرجاً من مأزق الحاجة، روح مناضلة طغت على معايير الحياة التي نتبعها، وبين كل صفعات الحياة وحدها صفعة الموت المفاجئ قادرة على أن توقظك وتضعك في نفس الوقت في غيبوبة لا تدري فيها كيف ابتدأ كل هذا وكيف انتهى.
حين يزور الموت الجوار ويمر محاذياً لك ترتعش لفكرة أنك قد لا تكون غداً، قد تنسى، قد تمضي بلا حمل ولا ذكريات، روح غادرت وتركت جسداً لطالما ذرف الدموع لأجل الحياة، وها هو اليوم قطعة ستوارى الثرى.
لم أعد أعرف ما المهم لدرجة أن نقاتل الحياة لأجل الحياة، إنها رعشة النهاية ما أفقدتني الكلمات، أنا هنا وغداً قد لا أكون لأطلب السماح لنفسي من كل شخص صادفته عابسة لكل من سببت له الأسى، سماح لأهل السماح، سلام من روح ما زالت بحبكم تعيش على أمل اللقاء في حياة أفضل، في وطن هواه يخنق، ورجاله يقتلون باسم العدالة، لإنسان امتلك كل شيء إلا الإنسانية.
سلام لأمة تبرأ منها الإسلام وكل الأديان، سلام لأرواح ما زال بها أمل لوطن قدمنا له كل شيء وتصدق بنا لوحوش الغاب، كانت مغادرتها لنا في آخر المشوار رسالة واضحة حملت لكل منا معنى، لكنها وحدتنا على الحب والسلام، بدأنا نبحث عن أنفسنا، لكن هذه المرة ليس في الآخرين بل في دواخلنا، ننقب بين الحطام عن ذكرى ضاعت بين الزحام.
وجدتني في ركن أحمل رسالة من طفلة حالمة ظنت أنها حين ستكبر ستحقق كل الأحلام؛ لتجد أن أكبر أحلامنا كان هنا هو البقاء.
كنا نحارب كي نبقى حتى نصل ما سمّوه نجاحاً.. لكن لا، فالنجاح هو أن تنام هانئ الضمير ليس هناك من يناجي ربه للانتقام منك، النجاح أن تجد قلباً سليماً تتوسَّده في أيام المحن، يكون لك نوراً حين يمسي العالم ظلاماً حالكاً، النجاح أن تبتسم في الصباح وأنت تنظر إلى نفسك في المرآة، أن ترى وجه أمك المنير وهي تبادرك: صباح الخير والنور.. النجاح أن تناضل لأجلك وليس للآخرين، أن تكون أنت كما أنت وليس نسخة من الملايين، النجاح هو أن تجد في كل ما تفعل سعادة، النجاح الأكبر هو أن تصالح نفسك وأن تمضيا معاً في طريق الحياة؛ لأن أصعب أنواع الغربة هو غربة النفس؛ لأننا كلنا غرباء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.