منذ قدومي إلى هذه البلاد البعيدة وأنا أعيش نوبة من الاستغراب والاندهاش والإعجاب المبالغ فيه، منذ قدومي وأنا أتساءل: أين نحن منهم؟ وكيف استطاعوا الوصول إلى هنا وتجاوزنا بكل هذه المراحل؟
لا تاريخ لكوريا سوى سنوات عصيبة من الفقر والجوع والتشتت السياسي، لا أمجاد تذكر لها، ولا فتوحات سوى أنها معجزة اقتصادية كما ينعتها العالم، معجزة قفزت ببلد ظل حتى مطلع الستينات يقتات من الفلاحة إلى أكبر القوى الصناعية في العالم وسادس مصدرّيه، بلد حارب جهله بنفسه وجعل من الفرد مركز اهتمامه، كوريا بدأت صراعها ضد نفسها بالتعليم ومن أجل التعليم، ما زالت تصرف ثروات مهولة جعلت منها أكبر ميزانية تصرف على هذا القطاع في العالم، كوريا لم تحارب الجهل فقط، بل ذهبت إلى محاربة الأمية الإلكترونية؛ لتصبح بذلك من أقوى الشعوب في استخدام التكنولوجيا وصناعتها وتصديرها.
كوريا لو أردت نعتها بكلمة واحدة لقلت عنها بلد الأخلاق العالية بامتياز، شعب حافظ على قيمه ومبادئه، ولم يتأثر بعوامل التعرية من أي ثقافة أخرى.
عامل الثقة هنا تجاوز حدود عقلي الذي تربى في كنف الحيطة والحذر، وأسلوب الهجوم خير وسيلة للدفاع، عامل الثقة هنا يجعلك تثق بالمقابل في نفسك، وفي البشر من حولك، وفي الحكومة التي لم تجعل فوق رأسك رقيباً أو حسيباً يذكرك أنك ستطحن في أكبر ساحة عمومية إذا خولت لك نفسك أن تفعل ما تفعله كل بطون البلاد الممتلئة وأن تسرق.
لا وجود لشيء يشبه السرقة أو الاحتيال أو استغلال السلطة أو الفساد الإداري هنا، مِم يخافون ونصف الشعب ملحد لا يؤمن بشيء؟ أليست لهم نفس أمّارة بالسوء كالتي تعشعش بداخل كل واحد منا؟ ألا يوسوس لهم الشيطان كما يضحى يفعل بنا؟ كنت أجد لنا أعذاراً واهية كالفقر والبطالة والعيش البئيس، لكن عدد المتشردين الذين رأيتهم هنا لا أظنه يوجد بأي من بلداننا العربية، متشردون مسالمون يمسكون كتاباً وقنينة "سوجو" أو يلعبون الشطرنج ويغنون.
لا وجود للعنف هنا، تمنيت أن أصادف ولو لمرة شجاراً أتفرج عليه بحماس كما عهدت أن أفعل، تمنيت أن أركض نحو الشباك لأرى من أين تنبعث أصوات الصراخ، تمنيت أن أرى ملاحقة بوليسية بين سارق وأبناء الحي الشهام، تمنيت أن أخبئ هاتفي بكل حيطة في واضحة النهار، وأن أهرول ما إن أسمع خطى تقترب مني في أكبر شوارع العاصمة، تمنيت فقط أن يعاكسني شاب في الشارع، وأن يسمعني على حسب مزاجه أعذب الكلام أو أوسخه، تمنيت الكثير، لكنهم خذلوني ولم يحققوا أبسط أحلامي التي كانت واقعاً في بلدي أستيقظ وأنام عليه كل ليلة.
كنت أظن أنهم مشوا وفق دالة أسية للوصول إلى ما هم عليه اليوم لكن صرعان ما فهمت أننا نحن من تأخرنا، نحن من لبتنا مئات الأعوام في كهوفنا بينما كانت هذه الشعوب تبني كيانها وتتصارع من أجل أن تبهرنا حين نستفيق.
فهمت أن ما يعيشه هؤلاء البشر عادي ليس بخارق، بل نحن من نعيش أسفل العادي بسنوات، فهمت أننا رضينا على أنفسنا منذ البدء بالجلوس في القاع وانتظار أن تأتي اللقمة جاهزة إلى أفواهنا، والتماطل في أكلها بكل وقاحة عدة مرات.
فهمت أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ونحن نأبى المساس بأنفسنا الطاهرة النقية التي نزعم أنها لا تحتاج إلى التغيير، فهمت أننا سنظل على حالنا هذه ما دمنا لا نريد التضحية من أجل حضارة تستحق أكثر من هذا بكثير.
فهمت أشياء كثيرة تجعلني أبكي عروبتي وعرقي ووطني الذي يعيش على هامش كل الأشياء اللازمة لعيش حياة كالحياة أشياء تدفعني بقدر اعتزازي بعروبتي لطمر أي تفصيل يذكرني بها، أشياء تجعلني أتشبث كل يوم بفكرة اللاعودة.
ألم يعلمونا في مدارسهم أن الوطن هو حيث ننعم بعيشة كريمة، أن الوطن هو حيث نضمن حقوقنا ولا نشحذها على أبواب الإدارات والمرافق العمومية، أن الوطن هو مرادف الأمان وليس مرادف ما نعيشه من رعب في الشوارع والأزقة.
لا وجود لوطن في "وطنكم"، فشكرا لأنكم علمتمونا في مدارسكم كيف نبحث عن وطن صالح للحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.