هنا، لن تسمع صوت المآذن، لن تحضر حفلة على إيقاع الترانيم الأندلسية وقفاطين النساء المطرزة بألوان الفرح والجمال والبهجة.. لن تعانقي صديقتك عند استقبال خبر محزن أو بعد يوم مُتعب.. لن تتصلي بأختك كل صباح تسألينها عن طبق الغذاء وعن وصفة الهالات السوداء.. لن تشكر أحدهم باستعمال عبارات تدل على هويتك أو دينك.. ستتردد ألف مرة قبل أن تتصرف أي تصرف قد يفهمه الآخرون جهلاً أو تطرفاً.. ستكون قوياً وأنت في أقصى مراحل ضعفك لتثبت لهم أنك لا تختلف عنهم.. ستختارين ألوان ملابسك بعناية..
ستعيش حراً كريماً، نعم.. لكنك ستشعر دائماً بأنك نقطة حمراء وسط لوحة تتناسق كل ألوانها ما عدا الأحمر..
هذه المدينة هي مدينة الرومانسية بامتياز: أوراق الخريف المتساقطة، وزخات المطر القوية، وإنارة الشوارع الهادئة.. لكنها مدينة وجع أيضاً، وجع المغتربين الذين لا يجدون من يشاركهم طعامهم ويملأ غرف بيتهم الصغيرة؛ وجع لمن رمت لعنتها عليه فلا يجد مورد رزق ولا مسكناً يغطي جسده المتهالك ولا حتى كلمات مواساة أو دعاء؛ وجع لمن هربوا من ظلمات الحرب والقهر والموت لتستقبلهم المدينة بالبرد والجوع وجرائم الكره والعنصرية.. لا أعشق القهوة ولا الشاي ولا صوت فيروز، وحتى هذا المنظر الجميل من نافذة غرفتي لا يغريني.
أشتاق إلى أسرتي وكل أفراد عائلتي.. إلى صديقاتي وإلى بلدي.. أن أبتسم لدعوات مسنّ أرشدتُه للمكان المقصود، أن أسمع الشوارع تنبض بكلمات تشعرني بالأمان. في آخر مرة كنت عائدة فيها من إحدى الدول الأوروبية، ما إن لامست الطائرة أرض بلدي حتى تعالت زغاريد النساء وتهليلات الرجال وتصفيقاتهم؛ بل إن بعضهم أطلق أغنيات مغربية عبر هاتفه.
كل تلك القلوب التي اشتاقت إلى تراب طالما اتسخت ملابسهم به وهم يلعبون أمام منازلهم، وهم يحاولون اللحاق بالباص الذي تعمّد عدم الوقوف لهم صباح يوم ممطر، ترابٍ دفنوا فيه أحبتهم بعد أن وصلت آجالهم، لكنهم ما زالوا مصرّين على حبه والحنين إليه والافتخار بالانتساب إليه..
أستغرب لمن يغادر وطنه وأهله ويتنكر لهم ويصفهم بأقبح الكلمات، أؤمن بأنه لا يدرك معنى الانتماء ولم يعتبر نفسه جزءاً من ذلك الوطن من قبل. الوطن ليس شخصاً نتهمه بالتقصير أو اللامبالاة، إنه أنت وأنا وهم، إنه اختيار زوجٍ صالحٍ وتربية أبناء بكثير من الوعي والحب والمسؤولية، إنه صوت تقدمه لمرشح ما، إنه الليالي التي تقضيها في المذاكرة لتصنع مستقبلاً، إنه دعوات وسجدات والدتك في جوف الليل، إنه حفل زفاف تُسمع زغاريده من بعيد، وصرخة رضيع استقبلته الدنيا ليصبح هو أيضاً قطعة منا ونحن نصنع مستقبل الوطن.
الوطن باختصار: ذلك الطفل الصغير الذي يخطئ.. يكسر زجاج النافذة ويصيبك بجروح.. تعاتبه، لكنّ ذلك لا يعني أنك ستتوقف عن حبه، سيضمد جرحك وستجمعان الزجاج المنكسر معاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.