عندما انتقلت من الولايات المتحدة الأميركية للعمل في منطقة الشرق الأوسط عام 2009، كان مفهوم التجارة الإلكترونية محدوداً نوعاً ما، بل إن حلول الدفع الإلكتروني كانت شبه معدومة، وإن توافرت فإن الثقة فيها كانت ضئيلة من قبل المجتمع العربي، أما الآن ونحن على مشارف عام 2017، فإن الأمر قد اختلف كلياً.
بالنظر إلى الفترة الماضية نجد أن حجم سوق التجارة الإلكترونية في المنطقة العربية والشرق الأوسط ارتفع بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، ونما من 7 مليارات دولار عام 2011 إلى 15 مليار دولار عام 2015 (حسب تقارير شركة PayPal العالمية)، وأن عدداً لا بأس به من مواقع التجارة الإلكترونية المتميزة في العالم العربي تتصدر قوائم الأعمال الرائدة، ونجحت نجاحاً باهراً في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وحققت أرباحاً كبيرة، بل وأصبحت تجذب انتباه كبرى الشركات العالمية التي يعمل بعضها حالياً على دراسة الاستحواذ على مثل هذه المواقع، مثل ما يجري الآن ما بين عملاق التجارة الإلكترونية في العالم (Amazon.com) وشركة التجارة الإلكترونية الأكبر في الشرق الأوسط (Souq.com).
هذه النجاحات التي تشير إلى تغيير كبير في مفهوم التجارة في العالم العربي (المعتاد على النمط التقليدي ومحال التجزئة التجارية أو المكاتب – والذي يعتبر نمطاً محدوداً جغرافياً)، لها دلالات أخرى ذات علاقة بالتغيير الذي طرأ على المجتمع والمنظومة الاقتصادية في الدول العربية ككل.
فالباحث في هذا المجال يجد أن من أسباب تطور ونجاح شركات التجارة الإلكترونية في العالم العربي، هو إقبال شريحة كبيرة من المجتمع العربي (الذي يعتبر في معظمه من فئة الشباب والذي يعتبر الجيل المنفتح على التكنولوجيا والإنترنت) على الشراء إلكترونياً، وذلك لتأمينها منتجات وخدمات بأسعار منخفضة مقارنة بالمتاجر التقليدية، ومساهمتها في توفير وقت وجهد المستهلك، بل إن التغيير لم يتوقف عند المشتري وحسب، فالمصانع والشركات انتبهت إلى أهمية التجارة الإلكترونية، والأرباح التي يمكن تحقيقها من خلال الوصول إلى أسواق جديدة، وبدأت تروج لمنتجاتها وخدماتها للبيع إلكترونياً.
ولا بد من الإشارة هنا إلى الانتشار الكبير لمواقع التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية وحلول الأعمال التي تقدمها هذه المواقع لتسهيل عمليات البيع والشراء الإلكتروني، كما هو الحال مع عملاق مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، بل ان الحكومات لها دور كبير في تعزيز هذا النجاح من خلال توفير الإطار القانوني لتسهيل عمل شركات التجارة الإلكترونية كما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى وجه الخصوص إمارتَي دبي وأبوظبي، كما أن المنظومة المالية والقطاع البنكي في المنطقة العربية والشرق الأوسط ساهما بشكل كبير على ازدهار ونمو هذه التجارة من خلال توفير الخدمات والبنية التحتية للتعاملات المالية الإلكترونية، والتي تحتاجها هذه المواقع للعمل المحلي والإقليمي والدولي، الأمر الذي كان له آثار إيجابية على تطور الخدمات البنكية في المنطقة العربية، وخصوصاً بما يتعلق بالبطاقات البنكية التي يتم استخدامها، إما على المستوى المحلي للشبكة المالية الإلكترونية للدولة نفسها (كما هو الحال لشبكة الـKNET في دولة الكويت على سبيل المثال)، أو على المستوى الخارجي الدولي (كما هو الحال عند استخدام بطاقات الـVisa والـMaster Card).
لم تكتفِ التجارة الإلكترونية بتغيير العادات الشرائية في المجتمع وحسب، بل إن قدرتها على التأثير في قطاعات اقتصادية خدماتية أخرى تركت الأثر الكبير في تطور ونمو وازدهار هذه الخدمات في اقتصادات الدول العربية، ومثلت حلولاً إيجابية لبعض المشكلات الاقتصادية كالبطالة وتوفير بيئة مناسبة لرواد الأعمال لبدء شركات جديدة تدعم التجارة الإلكترونية.
فبالإضافة إلى القطاع المالي والبنكي والتطور الذي شهده في مجال البطاقات البنكية المقبولة إلكترونياً والحلول المالية الأخرى مثل حلول بوابات الدفع الإلكتروني عبر الإنترنت مثل شركات CashBasha وCASHU وHyperPay، فإن قطاع الخدمات البريدية شهد ثورة كبيرة في الفترة الماضية، وانتشرت الحلول البريدية المختلفة التي ترتبط خدماتها بوجود شركات التجارة الإلكترونية في العالم العربي، بل إن ذلك التأثير توسع إلى أن وصل إلى قطاع الخدمات اللوجيستية، وتوصيل المشتريات على المستوى المحلي في الدولة نفسها، وعلى المستوى الخارجي إلى الدول العربية، وأحياناً دول العالم الأخرى.
ولا بد من الإشارة هنا إلى قطاع خدمات تكنولوجيا المعلومات الذي يرتبط بالتجارة الإلكترونية بشكل وثيق؛ إذ إن أي تطور في قطاع تكنولوجيا المعلومات ينعكس بشكل مباشر على تطور مواقع التجارة الإلكترونية، وخصوصاً بما يتعلق بأمن المواقع والبنية التحتية وحماية خصوصية المستخدمين، ولكن في نفس الوقت، فإن تطور التجارة الإلكترونية دفع قطاع خدمات تكنولوجيا المعلومات في العالم العربي إلى التطور بشكل كبير إرضاءً لطموحات أصحاب الأعمال، فنرى ازدهار خدمات تطوير برمجيات تطبيقات الهواتف الذكية في الدول العربية، التي جاءت خدمةً للتنافس بين شركات التجارة الإلكترونية؛ حيث سمحت هذه التطبيقات بتسهيل وتسريع عملية البيع الإلكتروني، والوصول إلى عدد أكبر من الزبائن.
وتجدر الإشارة إلى أهمية التأثير الذي تركته التجارة الإلكترونية بما يتعلق بقطاع خدمات التسويق؛ حيث تم إيجاد وتطوير قطاع تسويق جديد خاص بالخدمات والتجارة الإلكترونية، وهو التسويق الرقمي والتسويق الإلكتروني، الذي انتشر بشكل كبير في العالم العربي أخيراً (eMarketing – Digital Marketing) وساعد في توظيف أعداد كبيرة من الخريجين.
ولو توسعنا في آثار التجارة الإلكترونية، لوجدنا أنها وصلت إلى المنظومة التعليمية كذلك، فنرى اليوم التخصصات التعليمية الكثيرة والمختلفة في جامعات الدول العربية ذات العلاقة بشكل مباشر بالتجارة الإلكترونية، بل إن بعض الجامعات بدأت بمنح درجات علمية متخصصة بالتجارة الإلكترونية.
جميع المؤشرات تدل على أن العالم العربي يتوجه إلى التجارة الإلكترونية، والاعتماد عليها بشكل أكبر، بل إن العالم اليوم ينظر إلى منطقة الشرق الأوسط على أنها الأسواق التي تنمو وتزدهر التجارة بها إلكترونياً، وعلى الشركات العالمية أن تتسابق بالدخول إلى هذه المنطقة والاستثمار في هذا المجال بأسرع وقت ممكن، فنجد على سبيل المثال شركة PayPal العالمية تركز نشاطها حالياً في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط، لاغتنام نتائج هذا النمو، والتطور في حجم التجارة الإلكترونية العربية، ولا بد من القول إن التجارة الإلكترونية لن تقضي على التجارة التقليدية ومحلات التجزئة في العالم العربي، فهي لم ولن تتمكن من فعل ذلك في أسواق الدول الأوروبية، ومتاجر الولايات المتحدة الأميركية، ولكن على جميع المؤسسات التجارية في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط التوجه إلى التجارة الإلكترونية وتفعيل منصاتها ومتاجرها على شبكة الإنترنت؛ لكي تحجز لنفسها مكاناً رائداً في هذا المجال، قبل أن تجد نفسها خارج نطاق المنافسة.
مفهوم التجارة في العالم العربي اختلف بشكل كبير عما كان عليه عام 2009، وأصبحت عملية فتح متجر إلكتروني وتأسيس شركة بسيطة للتجارة الإلكترونية بالأمر السهل، وفي متناول يد الجميع، ولعل هذا الأمر هو الحل الأمثل لمشكلات اقتصادية كبيرة لبعض البلدان العربية، بل إنه محفز إيجابي في تطور وازدهار القطاعات الاقتصادية المختلفة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.