في النهاية، ألا يعدو كل هؤلاء الأشرار أن يكونوا منتجاً مغربياً خالصاً؟ هؤلاء المرتشون والمختلسون وقطاع الطرق، هؤلاء السائقون الذين لا يحترمون قانون السير إلا بوجود الشرطي، هؤلاء المتملصون من الضرائب، هؤلاء الأساتذة والأطباء الذين يبيعون النقط والشهادات الطبية، أعوان ورجال السلطة، والموظفون المستعدون للدفاع عن الشيطان لو طلب منهم رؤساؤهم ذلك، هؤلاء الصحفيون الذين يكتبون تحت الطلب، هؤلاء السياسيون الجشعون..
يبدو أن المشكلة في نهاية المطاف تكمن في تنشئتنا الاجتماعية كمغاربة، وإلا كيف نفسر أن ابن الشعب الهادئ الوديع العاطل عن العمل يصير غليظ القلب إذا ما صار رجل أمن؟ وإلا كيف نفسر قيام أفراد قوات الأمن بقمع التظاهرات بالقوة وبالطريقة التي يعرفها الجميع فور إعطاء الأمر بذلك، أو كيف نفسر إعطاء الأمر -إن صحت الرواية- بطحن محتج على مصادرة أسماكه في شاحنة نفايات؟
غياب التناسق الاجتماعي:
كان للعمران المغربي قبل عقود خلت خصوصيات مثيرة للانتباه، خاصة في الحواضر، بحيث كان من الصعب التمييز بين منازل الأغنياء ومنازل الفقراء فقط من مظهرها الخارجي، وكان أولاد الفقراء والأغنياء يرتادون المدارس نفسها، إن لم نقُل الكتاتيب القرآنية ذاتها ويلعبون معاً.. اليوم انعزل الأغنياء في أحياء "راقية"، وانحصر الفقراء في الأحياء "الشعبية"، وانقسم المجتمع المغربي إلى مغربين اثنين؛ مغرب الأغنياء بمرافقهم الخاصة للترفيه والتسوق وتعليم الأبناء، ومغرب آخر، مهمّش مفتقر أحياناً إلى شروط العيش الكريم، منافٍ تماماً للمغرب الأول.
لعل من أبرز نتائج هذا "التقسيم" هو تنامي الحقد الطبقي على المدى القصير، مما يهدد المجتمع ككل على المدى المتوسط والبعيد.
غياب المشروع المجتمعي:
يعدم المغاربة اليوم تصوراً واضحاً لمشروع مجتمعي متكامل المعالم، الصورة القاتمة التي تسود لدى أغلبهم بخصوص مستقبل المجتمع القريب وغياب التفاؤل إزاءه، مؤشرات صارت فعلاً تدعو للقلق.
يجب ألا ننسى أن المجتمع ككل مجمع على أن القادم أسوأ مما مضى، ولأصحاب هذا التصور ما يفسر موقفهم في تدني مستوى التعليم والخدمات العمومية، فيما صار يعرف باستقالة الدولة من هذين المجالين الحيويين بشكل كلي، الخدمات الإدارية سيئة، ومستوى رضا الناس عن مجتمعهم في هبوط مستمر.
إزاء المشروع المجتمعي، كعقد اجتماعي بمفهوم روسو، أو كوعي جمعي بمفهوم دوركايم، أو كإعادة إنتاج النسق بمفهوم بورديو أو حتى المجتمع المبني على العصبية بمفهوم ابن خلدون، غير قابل للملاحظة لدى المغاربة، بسبب استمرار الضبابية إزاء التصور الذي سيجتمع عليه المغاربة بخصوص هذا المشروع نفسه: نحو المزيد من الانفتاح، نحو مزيد من العودة للتقاليد، أو نحو خليط من الاثنين.
أزمة السياسات العمومية:
للدولة من خلال سياساتها العمومية الدور المحوري في ترجمة الرؤية المجتمعية لمستقبل الأفراد والمجتمع على حد سواء. من المفروض أن تؤدي هذه السياسات إلى إحداث التغييرات المرجوة على أرض الواقع، إلا أننا في المغرب، على الرغم من مضي ما يربو على ستين سنة من الاستقلال وتعاقب الحكومات وتوالي السياسات العمومية، لم نحقق بعد المأمول من هذه السياسات، إن هذا الأمر راجع بالأساس إلى غياب سياسات عمومية بالمفهوم الحقيقي لها، وذلك إما بسبب قصر في وضعها والتخطيط لها، أو في تتبع تنفيذها، وتحديد كل الأطراف الواجب مشاركتها فيها في إطار الْتقائيّة حقيقية، أو في تقييمها وتصحيح مسارها لضمان استمراريتها في حالة صلاحها.
والحال أن عمر السياسات العمومية رهين بالقطاع الوزاري، أو المسؤول عن المؤسسة التي أطلقتها، وبالتالي فهي تزول بزوال الأسباب المنشئة لها.
أزمة النخبة:
لعل مكمن الخلل الرئيسي في الأزمة المجتمعية المغربية، التي لعل من أبرز مؤشراتها الملاحظة التي بدأ بها هذا المقال، هو غياب دور النخبة في القيام بقيادة المجتمع وتوجيهه التوجيه الصحيح.
أزمة النخبة في المغرب مرتبطة بغياب النخبة أصلاً، واستقالة المثقفين القلائل الباقين من الشأن العام واختيارهم الحياد.
بعد رحيل المنجرة والجابري وغيرهما كثير، واستمرار نزيف الأدمغة، وضحالة المشهد السياسي، وتدني مستوى الصحافة والكتابة والبحث العلمي، أصبح المغرب -الغني إلى عهد قريب بأبرز المفكرين على الساحة العالمية- يعيش عصر ضمور النخبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وبالتالي يدخل مرحلة غير معلومة المدة من التيه المجتمعي بدأت عواقبها تلوح من خلال بوادر انهيار المجتمع، كما كاد يقع عقب حادث الحسيمة المؤسف، الذي يعتبر حقاً بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة؛ إذ إن حدثاً عارضاً أبان عن عدة مظاهر لسوء التسيير والارتجال الذي أضحى من معالم أداء دولة يدعي الوصاة عليها أنها دولة حق وقانون.
العودة للجذور:
إن المجتمع الذي لا يبني بنفسه تصوراً أصيلاً للتطوير والتجديد لا يمكنه استيراد حلول جاهزة من غيره مهما كانت ناجحة، فشروط نجاح المجتمعات لصيقة بظروفها الخاصة، التي يمكن ألا تكون مشتركة مع غيره، قالوا لنا ونحن نتلقى أول دروس التاريخ: إن دراسة هذا الأخير مفتاح مهم لفهم الحاضر وبناء المستقبل، لا تعني العودة للماضي البكاء على الأطلال، ولا الانغلاق على الذات، بل التنقيب في خط سير المجتمع الزمني، والإمساك بالنقطة التي كانت تتفرع منها السبل لاختيار السبيل الصحيح، بما يتماهى مع طبيعة المجتمع ويراعي مصالح كل فئاته.
هي سفينة واحدة لا سفن شتى، فإما أن ننجو جميعاً وإما الغرق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.