العمر أشبه ما يكون بورقة نقود من فئة الخمسين، فما إن صُرفت لقطع نقدية أقل فئةٍ منها حتى أصبحت تتلاشى في أتفه الأمور، فتصرفُ هنا وهناك حتى تمدَّ يدَك إلى جيبك فتخرج فارغة، فتصبح إما نادماً على ما صرفتها عليه، أو أن تكون فخوراً بإنجازاتك ومدى تفكيرك العقلاني، فهكذا الحياة ما إن يولد الشخص منا ويخرجَ راكضاً إلى هذه الحياة حتى يعي تعب قدميه، فيستريح ويفكر برهةً من الزمن فيسأل سؤالاً بينه وبين نفسه: أين أفنيت عمري؟ وبماذا أضعته؟
فينظر إلى نفسه بالمرآة ليرى تجاعيد الزمان التي طُبعت على جبينه كختمٍ يميزه ويميزَ سنوات عمره، فإما أن يرى إنساناً هزيلاً لا حول له ولا قوة، لا شيء جديد قدمه للبشرية أو لنفسه حتى، فلقد عاش حياة بسيطة بأفكار بسيطة، وسيموت كما خُلق، فلن تخلد له البشرية نصباً تذكارياً؛ لأن حاله كحال ملايين البشر أمثاله، وسيوارى الثرى فيُنسى.
فجوهر الحياة ومقاييسها هو ما قدم الإنسان لهذه البشرية أو لنفسه، فالكائنات المُستهلكة أكثر بكثير من المُنتجة على هذا الكوكب، فنحن لسنا كائنات سياسية أو دينية أو تابعية نصفق عندما يقولون لنا، ونصمت عندما يقولون أيضاً، فتبنّ أي عقائد تحلو لك، واتبع أي حزبٍ يعجبك نهجه، ووفّر قرشك الأبيض ليومك الأسود، وعِش حياتك كأن اليوم آخر يومٍ لك هنا، وستكون غداً في دفاتر الذكرى لمحبيك فقط، أو للبشرية أجمع.
فنحن نصرف عُمرنا بأيامه وشهوره وسنواته بين جدران الحياة العتيقة، باحثين عن متاع الحياة بشكل اعتيادي، وكأننا نرضع الروتين وأبجدية الحياة ذاتها التي من المُعيب أن نغيرَ في حركاتها أو فواصلها، فنجري لننهي مراحل حياتنا، وكأنها "ماراثون"، فنصل لنهاية الخط متعبين، ورحيق زهرة حياتنا قد نُثرَ منذ الزمن فلم نستنشقه أو نعيره لأحدهم؛ ليصنع عسلاً لأنفسنا أو لغيرنا، فلا يعود لوجودنا أهمية تُذكر، فنختار الوحدة والسكون بين ثنايا القبر ونفحاته.
فلا تمسك جمرةَ حياتك، وتشدد عليها، فتؤذي نفسك وتطفئها، ولا تفلتها خوفاً من أن تحرقك وتحرق من حولك، فقاتل خُمولك، وصل لطموحك واغدُ فالغد مُشرق، سواء أكنت أم لم تكن، فكن أنت لا نسخةً عمن سواك، واغسل جُرحك وطهر قلبك، واسعَ لتضع بصمةً تراها لو بعد حين، فقد شاهدت في أحد الأفلام فكرة طفلٍ صغير تقوم على مساعدة ثلاثة من حوله، وتغير جذري لحياتهم، وبالتالي على كل منهم مساعدة ثلاثة أشخاص آخرين وهكذا، فتخيل مدى تغير مجتمعاتنا، وكيف ستكون لو كل منا طبق هذه الفكرة.
فالتغيير يبدأ منا، فالله لن يغير حالنا ما لم نحن نغير من أنفسنا، ونسعى لعلو مجتمعاتنا باسم غير المجتمعات الإرهابية، فنصبح المجتمعات المنتجة، التي يأتي العالم ليوثق إنجازاتنا، ليس طوائفنا وكثرة أحزابنا ومجازرنا.
فابكِ على ما فاتك من عمرٍ، وأنت ما زلت قادراً على البكاء قبل أن يبكي الآخرون عليك؛ لأنك دخلت هذا العالم وخرجت منه مثلما دخلت، فضع وردة في يد أحدهم، فهي أفضل بكثير من باقة على قبر في أحد المقابر، وغنِّ للشمس عند إشراقها، وقُل لها أنا هنا، سواء شاهدتك أم لا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.