على مدار السنين، ظلت الأمواج تنقش رسمها في صخور عظيمة ببحر بعيد وهادئ جنوب المغرب، نحتت -مداً وجزراً- بملح البحر وحبات الرمل وذرات الماء وكائنات الشاطئ الصغيرة، تجويفاً عملاقاً داخل صخور شاهقة بشاطئ لكزيرة القريب من مدينة سيدي إفني.
ظلت الأمواج تأكل جسم الصخر، ثم تسحب أطرافه المتهاوية إلى جوف البحر، ثم تعود إليه من أعماق الظلمات والليالي الماطرة، تكمل لوحتها ومبتغاها منه، استمرت بين رقش ونقش وسحب واندفاع لأزمنة طوال، لم تهمد فيها يد الموج حتى استحال الصخر قوساً بديعاً مهيباً سقفه أحجار، كأنها اللؤلؤ، وأرضه رمل مبلل بالنداوة والبرد، قوساً شاهداً من شواهد تفاعل الكون مع نفسه، بين صخر وموج، وشمس وغيم، وجبل وصحراء.. صُنع الله.
قوس "لكزيرة" كان أقرب لجسر بين الماضي والمستقبل، الوهم والحقيقة، الظلمات والنور، الخوف والطمأنينة، ومعبراً نحو الأمل والتجدد والإشراق، مكاناً لاستغراق فكري وتدبر في حركة الطبيعة عندما تتسرب لأعماق الإنسان، ترجُّه رجاً، تبث فيه سر الكون.
تملكتني أحاسيس رقيقة ومشاعر غريبة وأنا أعبر بدوري ذلك القوس، كأني أعبر نفسي، وأتخطى آلامي، كنت أجلس في كنفه، أتأمل سقفه، وأفكر في سر هذا الشعور الغريب والمهيب، هل هو الجو البارد داخل مغارة القوس؟ هل هو السقف البعيد المقعر الذي تحس أنك تصعد إليه بحركة لا شعورية إذا ما لمست أحجار الجدار الذي تسند إليه جذعك؟ أو وأنت تركز عينيك في أماكنه الأكثر ظلمة؟ أم هو صوت الأمواج التي تذكرك بالسنين الطويلة التي تطلَّبها إنجاز هذا العمل الفني؟ أم النسيم؟ أم الفراشات؟ أم الطيور؟ أم كل ذلك؟
بدأت في لحظات استغراقي تلك أفك بعض أسرار هذه المأثرة، أنصت لبوح الموج، لتلك الضربات العنيفة التي تتحطم على قدم القوس الراسية في البحر، فيقفز صداها للضفة الأخرى، أتأمل تلك الجداول الصغيرة التي تكونت فيه وحواليه، أستقبل تلك الطاقة الغريبة التي تصدر من امتزاج الإنسان والبحر والظل والرمل والحجر بمكان بعيد عمَّا نسميه -عن صواب أو خطأ، قطعاً أو ترجيحاً- "حضارة".
تذكرت للحظة مقطعاً من رواية قرأتها عن متصوف مسلم سيقضي أياماً بمغارة قرب البحر، يتعبد فيها ويتخذها ملجأ من كيد الأعداء. لم يكن بإمكاني المكوث في القوس ولا اتخاذه مكاناً للاستغراق والتعبد. في الرواية ممكن.. لكني فكرت أن القوس يصلح لمهمة ثانية، مهمة تأبينية، ليكن هذا القوس المفتوح في الشاطئ مقبرة.
بقدر ما تقبر فيه من قصص، بقدر ما تشرق من بعده قصتك، وليصير فعلاً معبراً نحو الإشراق والتجدد، نحو "البدايات الجديدة"، لا بد أن تقبر فيها "البدايات القديمة"، تلك الروابط المتعفنة التي اقتحمت تاريخ حياتك لأسباب مختلفة، وتلك الوجوه الشائهة البئيسة التي فرض عليك الزمن الرديء الاحتكاك بها، تلك الصور والحكايات التي تحتاج أن تفارقها الآن في هالة الخشوع والرهبة التي يبعثها في داخلك، وهكذا كان.. في أحشاء القوس دفنتُ الماضي.
دفنته في تلك الفسحة المظلمة والغائرة التي تظل رقعة ليلاء رغم أشعة الشمس الحارقة والساطعة خارج القوس، وبعد شهر ونصف (زرته بداية أغسطس/آب) عرفت أني دفنت الماضي إلى الأبد، جاء الخبر يقول "انهيار قوس لكزيرة.. ذلك المنظر الطبيعي الخلاب الساحر بجنوب المغرب".
مات القوس شهيدا، انهار بشرف بعدما أمد أسراباً كثيرة من زواره بشحنات دافعة وبطاريات بديلة ورؤى مختلفة لممكنات الطبيعة، انهار ليعطي آخر شحنة وأرسخها بقاء في نفوس كل من استودعوه سراً، أو دفنوا بين رماله وجعاً، أو رسموا وجهاً قبيحاً وتركوا الموج يتلف ملامحه إلى الأبد، انهار ليذكر الخلق بخالق القوس، بديع السماوات، بالمدد الرباني الذي لا ينقطع، انهار ليبقى قلب الإنسان اللاقط للجمال، الموصول بالخالق، أجمل آيات الكون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.