ونحن نزاول الحياة ونمتص من رحيقها، تجدنا في بحث دائم عمّن يفهمنا، إن نحن باشرنا أو توارينا خلف الواقع والمصادفات نظل باحثين عن ذاك الشخص، لكن يحدث أن تفوق قوانا في الفضفضة أحياناً طاقته، فنعود أدراجنا إلى نقطة البداية: البحث.
هناك فقط يصبح البحث أنضج، ونصبح نحن أكثر تدقيقاً، ونقرر اختيار صديق لا يمل من استرسال تفاصيلنا اليومية، لا يضجر عند اشتياطنا غضباً، ولا يكل ونحن نعيد ذات الكلمات فرحاً، صديق يحتوينا وقت الضعف، ولا يعيش إلا على نبض كلماتنا: القلم.
فمن غير القلم يوقع عقد التفاهم الأبدي والاستماع الدائم، الإحساس بالمشاعر والترجمة الحرفية لها؟ من غيره ينتظرنا حيث نرغب ويسافر وإيانا حيث نحلم؟ ومن غيره يلبي النداء دون أدنى استفسار عن الزمان والمكان؟
فللكتابة مفعول سحري حقاً تعجز الكلمات عن وصفه، تلك التي تنادينا في الوهلة الأولى لاحتساء فنجان قهوة وإياها على شرفات الأمل، ثم تقوم بدعوتنا إلى حدائق الفل وغابات النخيل، ثم إلى صباحات بجوار الموج، وعلى الأرصفة؛ لنجدنا في آخر المطاف والإدمان يتفشى فينا، نلبي النداء في ساعات متفرقة من اليوم وجوف الليل، ونحضر في كل وقت وحين، متجاوزين العالم، مهرولين، خاضعين لقوى الحروف المسلطة علينا.
قرينة الروح هي، تستشعر آلامها وبهجاتها وتداوي جراحها بلطف، تمسك أناملها وترافقها حيث الشط وترفعها للأفق وتنير ظلماتها، فن هي، تنزل على ممارسها غزات هدوء وتمطره حباً فيغدو عاشقاً لتفاصيل الحياة، مقبلاً عليها بتطلع منهمر.
فأن تكتب يعني أن تتفرد بتلك الروح، أن ترتكبا عصفاً نفسياً وذهنياً وأن تمارسا معاً طقساً من الطقوس الروحانية.
أن تكتب هو أن تختلي بذاك القلم، ولو بين الحشود، وأن تؤسس عالماً خاصاً بك تلجأ إليه، تبتعد هناك عن التنمق والتشدق وتنفض فيه عنك غبار الحياة.
أن تكتب أن تكون أنت نفسك، نقياً، صافياً، تاركاً خلفك أثوابك وأدوات زينتك، متجرداً من شتى الإضافات، أن تسمو بك الروح إلى الأعالي، أن تفقد الاتصال مع المحيط.
أن تكتب يعني أن ترافقها إلى حيث تأمر، لا مجال للتمنع والرفض في الكتابة، ولا غير الروح تعرف أين السبيل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.