هذه التدوينة تحوي كلمات بالعامية المغربية
وأنا ابن السابعة والعشرين وبعد حصولي على الدكتوراه بعد جهد ثماني سنوات من كل أشكال التعب والسهر والإعياء، والتي اختتمتها بأداء القَسَم أمام والديّ، في مشهد بطولي ما زلت أقشعر له كلما تذكرت تدافع دموع الفرح والابتسامة لدى والديّ، نظرات الفخر لدى أصدقائي المقربين، نظرات التمني لمن سبقتهم، ونظرات الأمل لمن لم يلتحقوا بعد.
عَقدْتُ الكثير من الأمل على مرحلة ما بعد التخرج، وكنت أعتبر أنها ستمحو الكثير من القلق والأرق الذي عانيته في السنتين الأخيرتين قبل تخرجي، بحكم الضربات التي تلقاها الميدان الطبي الذي يحلم بولوجه الكثيرون، والذي لا يعلم حقيقته إلا قلة قليلة.
فبعد إلغاء مباراة التخصص سنة 2013 جاءت وزارة الوردي بمناصب شحيحة سنة 2014 و2015، مباراة التخصص هذه كانت ياسمينة بادو تفتح لها 300 منصب في السنة لكلية الدار البيضاء وحدها، علماً أن عدد الخريجين لم يكن يتجاوز 200 طبيب، أصبح بنكيران يخصص لنا 100 منصب لهذه السنة على سبيل المثال مقابل 450 خريجا!
تم النزيف الحاد على مستوى الأساتذة؛ لتكتمل الصورة بخصخصة الميدان، وشراء مولاي الحفيظ العلمي للكلينيك تلو الآخر، بعد دخوله ميدان التأمين، والإسعاف في انتظار إنشائه كلية طب خاصة به للحصول على كل المواد الخام في أفق تركيع المواطنين الفقراء.
ازدادت الصورة سوءاً بإنشاء كلية طب خاصة، في سابقة لم تعرفها أي دولة من دول العالم التي تعتمد مجانية التعليم "ولا تُقارنوننا بأميركا.. التعليم هناك كله مؤدى عنه زائد شروط الرقابة الصارمة"؛ لنجد أنفسنا مطالبين بتقبل طلبة معاهد لا لشيء سوى لأنهم رسبوا أو لم يحصلوا على معدل الولوج، يطالبوننا بأن نتقبلهم ونتعايش معهم ونعتبرهم "des confrères ".
بعدها جاء مشروع الخدمة الإجبارية، الذي كان المسمار الأخير في نعش قطاع الصحة الذي يحتضر أصلاً، تم إلغاؤه بعد سمة التكتل والتوحد التي طغت على الكليات السبع، مما شكل صدمة لأجهزة الأمن التي لم تستسغ ليومنا هذا الطفرة غير المحمودة لعقلية النضال لدى الأطباء الجدد، وهي الآن في طور تحضير طبخة أكثر إتقاناً من المشروع السابق.
في خضم كل هذا سألت نفسي السؤال الجوهري: "شنو غادي ندير من بعد؟".
1- التوجه للقطاع الخاص والبحث عن مدينة صغيرة أفتتح بها عيادة أرى أنها لن تسمن ولن تغني من جوع، ليس انتقاصاً من قيمة الطبيب العام -حاشا لله- وإنما هو تنازل أقدمه بعدما حلمت دائماً بالارتقاء في درجات التكوين والتحصيل والوصول لمراتب تمكنني من صنع تغيير حقيقي، وتقديم خدمات كبيرة لأشخاص أكثر ممن يزورون عيادات الضواحي.
2- التوجه للقطاع العام: بالنسبة لي هو الإمضاء على أول شهادة وفاة قبل الولوج لمرافق العمل، وهي شهادة وفاة الأمل في روحي، فأنا شخصياً أرى القطاع العام في بلدنا الحبيب رمالاً متحركة تبتلع كل من يحاول مقاومة سيرها، وتتشرب عرق مجهودك ليصير ماء مبدداً تسكبه فوق الرمال، لا أستطيع أن أتخيل نفسي وأنا ألعب دور المحصل والموزع والمراقب والصيدلي وحارس الأمن، فأنسى من أنا، أنسى الرسالة التي ضحيت في سبيلها بالكثير؛ لأصير مجرد رقم جديد في نشرات الأخبار، مكلف بصحة 10 آلاف مواطن، عن طريق توزيع الأدوية، إن توفرت، وتقديم النصائح حول سبل التوجه للمدن الكبرى، قصد تلقي العلاج في المستشفيات العمومية.
3- الاشتغال في شركة كطبيب شغل أو في مستعجلات مستشفى خاص أو في شركة تأمين، وبالتالي أصل للنهاية التي كنت أفتخر بأننا كأطباء لا نخضع لها، ألا وهي العمل تحت سلطة مدير، والتقيد بمواعيد دخول وخروج في روتين قاتل.
4- البحث عن التخصص في الخارج: اختبار أصبح بعيد المنال بل أصبح مستحيلاً، "ماما فرنسا" أصبحت تفتح منصبين كل سنة لكل خريجي الدول الفرنكوفونية، ألمانيا يلزمك 3 ملايين سنتيم لدراسة لغتها، مع احتمال إرجاعك للمغرب في سنتك الأولى، إن أنت لم تعجب الأستاذ رئيس المصلحة هناك، كندا يلزمك الملايين لمعادلة شهادتك، علماً أن المسطرة غير مضمونة البتة، أحاول إذن اجتياز "les steps" أميركا، علماً أن لغتي الإنكليزية لا تتعدى كلمات من قبيل "تباً لك" حفظتها عن ظهر قلب من "MBC2".
5- مباراة التخصص: نعم مباراة التخصص هي الحل، هي الحلم الذي راودني ويراودني منذ دخولي كلية الطب، لكن تريث لنأخذ المسألة من زاوية محايدة، ما الإيجابي وما السلبي فيها؟
سألت نفسي: هل لي طاقة على الصبر على 3000 درهم شهرياً لمدة 5 أو 6 سنوات أخرى والتخبط في ذل المواصلات العامة وشح السيولة للسفر والملبس والأكل والترفيه بذلك الراتب الزهيد؟
ومن بعد التخرج أفتتح عيادة وأدخل وأنا ابن 32 أو 33 سنة في دوامة جديدة من القروض الربوية؛ لأضيع سنوات أخرى من عمري كنت أعتبرها في الأصل سنوات جني ما زرعته من تعب 13 سنة.. أضيع المزيد منها في السعي ثم السعي لإنهاء ثمن الأجهزة وسومة الكراء والالتزامات الأخرى؟ أحقاً تعبت 13 سنة لأدخل في سنوات أخرى من قلق وضغط القروض الربوية؟ أضف إلى ذلك أنني أحبذ التخصصات الجراحية، وكلنا نعلم أنه من الصعب التخرج كجراح والاشتغال مباشرة في القطاع الخاص.
إذن أوقع عقداً مع الدولة، على الأقل 8900 درهم شهرياً تحفظ بعضاً من الكرامة، وتمكنني من شراء سيارة بسيطة، وحفظ ماء وجهي أمام أصدقائي "الذين بت أخجل من تخلاصهم عليا كل مرة"، ولمَ لا التعجيل "فالأعمار بيد الله" في تحقيق حلم أمي المريضة بالذهاب معاً لأداء فريضة الحج، بل وسأتمكن بذلك المبلغ الضخم مقارنة مع أجرة "benevolat" من الذهاب بشبه كرامة أمام أهل إحداهن لخطبتها "إنسانة ممن تؤمن حقاً أننا الأطباء فعلاً فقراء، وأن الطبيب يصل لخيالات المجتمع من قبيل أننا نأكل في ملعقة من الذهب، ونفترش الفضة بعد الأربعينات أو الخمسينات من العمر، أو أحياناً لا يصل لها".. أتذكر كل ما أسلفت ذكره وأقارنه بواقع المستشفيات الجهوية بعد التخرج والتفرغ لخدمة إخواننا في الصحراء، وتشتيت استقرار أسرتي الصغيرة، وقضاء مجمل الوقت تنقلاً بين محل السكن ومدينتي الأصلية بين مستشفيات جهوية تفتقر لأدنى الشروط، بحيث أقضي مجمل الوقت كطبيب متخصص خريج في إرسال المرضى للمستشفيات الجامعية، انتقاماً من بعض أساتذتنا ممن امتهنوا إذلالنا أيام التخصص حيناً، وعجزاً ولقلة الحيلة أحياناً أخرى.
بين هذا وذاك قلت: وما الذي يجبرني على الاستمرار في التحضير لمباراة التخصص إن كنت أرى الأمور بهذا السوء؟ أهو حلم التخصص؟ بالله عليك أفي هذا الوطن تُحقق الأمنيات والأحلام، أم تمشي الأمور بمبدأ "سير فين مشاك الله"؟ ولي في عتمان خير دليل، من الهندسة للبندير.
هو بساطة الخوف من نظرة الغير، هو محاولة البحث للأسف عن المجد في عيون الغير، هو الخوف من احتقار المجتمع وتبخيسه لقيمة الطبيب العام، وكره سماع الجملة التي يرددها أساتذتنا الموقرون في كل "staff": "هاد المريض فجلو جينيغاليست عاوتاني وسيفطو لينا.."، رغم أن أستاذي الموقر هو الساهر الأول على تكويني السيئ، وهو من يُشخِّصُ أيضاً أن تكوين التخصص ببلادنا في سقوط حر من سيئ إلى أسوأ.
بين كل هذا وذاك أقضي أيام التحضير هذه في تجرع أسئلة الغريب عن أي تخصص أحبذ " كأننا نختار حسب أهوائنا"، وأنا أجيب في خاطري أي تخصص لي "سيَشِيط" وفي ترقب أهلي الذين يعتبرون النصر آتياً لا محالة، وأن مسألة نجاح ابنهم النابغة وحيد زمانه مسألة وقت فقط لا غير.. أمضي الوقت أيضاً في محاولة شحن عزيمة أصدقائي وصديقاتي "منهم من ترى الحزن دفيناً في أعينهم، ومنهم من يعيش على وقع المهدئات لمدة طويلة، ومنهم من أخذ قرار بداية علاج جرعة مضادات الاكتئاب التي لم يتوقع يوماً أنه سيؤمن بحاجته إليها، وبأنه فعلاً يعاني اكتئاب الخيبة من تحطم حلمه الغالي بواقع الوطن المرير، ومنهم من أسرت لي صراحة يوماً بأن ما يحول بينها وبين حبل المشنقة هو أشهد أن لا إلا الله فقط لا غير، ومنهم من يأتي للتحضير معنا فقط لكي لا يختلي بنفسه خوفاً من تأنيبها له على اختياراته السيئة تلو الأخرى".
عزيمتي أنا الآخر تتداعى يوماً بعد يوم، من جهة لم تعد لي القدرة على الالتزام والتحضير كما يجب، ومن جهة أخرى لم أعد أملك من الشجاعة والقدرة على أخذ قرار مهم وواقعي ولو لمرة واحدة في حياتي بعدم التحضير لمباراة أعلم أنني إن نجحت فيها لن أفرح قيد أنمُلة "نظراً لما تنتظرنا فيها من سنوات عبوس"، والأسوأ هو أنني إن لم أُحضِّر لها لن أفرح أيضاً؛ لأنها تبقى أحسن الاختيارات السيئة المتاحة.
لا أجد سوى التصبر بالآية الكريمة: "لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.