قد يتسرع البعض في وضع تصور عن الصومال إذا اعتمد على الصورة الحالية لهذا البلد ما بعد الحرب الأهلية ولم يطّلع على تاريخه، فقد شهد الصومال واحدة من ديمقراطيات إفريقيا النادرة في الستينات، حين انتهت فترة رئاسة السيد آدم عبد الله عثمان – أول رئيس بعد الاستقلال – انعقدت الانتخابات وهُزم فيها بفارق ضئيل، فسلّم السلطة لخلفه واعترف بالهزيمة، ولكن الرئيس عبد الرشيد شرماركي اغتيل قبل انتهاء فترته، واعتلى الجيشُ السلطةَ في الصبيحة التي تقرر فيها إعلان الرئيس المؤقت وموعد الانتخابات المبكرة، وذلك في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1969.
وكعادة كل الانقلابيين، حُظرت الأحزاب، وحُلّ البرلمان، وعُطّل الدستور، وعُسكرت جميع المناصب المدنية، وصار الجنرال محمد سياد بري رئيساً للبلاد، هو الدستور، والبرلمان وقائد الجيش.
هذا النظام، الذي يتولى فيه الجنرال المناصب الحساسة كافة، تعرّض لمعارضة أدركت أن السلمية ليست اللغة الأنسب في التّعامل مع نظام كهذا، كان لها جناح سياسي وآخر عسكري، ولكن الجنرال استطاع بأذرعه الإعلامية تفكيك الحركات، وأقنع الشعب بأنهم مجرد خونة وعملاء، وأن الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال ما هي إلا واجهة لعشيرة طامعة في السلطة، وشعاراتهم ما هي إلا كلمات جوفاء لاستمالة الجماهير.. أما الحركة الوطنية، فهي حركة انفصالية تسعى لتقسيم البلاد، واستطاع الصمود 10 سنوات دمّر خلالها الحواضن الشعبية لحركات المعارضة المسلحة. ولكنه سقط أخيراً حين ظهرت حركة المؤتمر الصومالي الموحد التي كانت العاصمة حاضنتها الأساسية، ولم يجد الجنرال بُداً من الهرب.
بعد إسقاط النّظام، احتكر الجناح السياسي لحركة المؤتمر الصومالي حق تأسيس حكومة انتقالية، وتفرّغ الجناح العسكري لها لعمليات التصفية والانتقام من العشائر التي تنتسب إلى قبيلة الرئيس، ووقعت البلاد في فخ الاحتراب الأهلي، وبدأت سلسلة الانقسام المناطقي، وحلقات المؤتمرات الوطنية للمصالحة، وبقي الصومال في حالة فراغ تام من أي سلطة موحدة 10 سنوات كاملة، تداعت خلالها كل مؤسسات الدّولة ومرافقها، وأصبح نموذجاً سهل الاستحضار في كل أزمة تشهدها الدول الإفريقية والعربية.
الانتخابات قبل 2012
دخل الصومال منذ بداية الألفية الثانية مرحلة الحكومات الانتقالية، وكان اختيار نواب مجلس الشعب والرئيس يجرى خارج البلاد؛ ففي عام 2000م، اختير النواب بجيبوتي، وهم بدورهم اختاروا وزير داخلية نظام سياد بري وهو السيد عبدي قاسم صلاد للرئاسة. وفي عام 2004، وُضع الميثاق الوطني تمهيداً لكتابة دستور للصومال، واختير أعضاء البرلمان في امبيغاتي بكينيا المجاورة، ومرة أخرى انتخب النواب الرئيس وهذه المرة كان عبد الله يوسف زعيم أولى حركات التمرد، ولكنه لم يكمل فترته، بسبب ما كان يسمى اتحاد المحاكم الإسلامية، فاستقال.
ومرة أخرى، اجتمع الفرقاء بجيبوتي وتكررت العملية نفسها وأصبح زعيم اتحاد المحاكم الإسلامية، شيخ شريف شيخ أحمد، رئيساً انتقالياً في 2009م. وفي فترته، كتبت مسودة الدستور وصدّق عليها ممثلو القبائل الصومالية، وتقرر إجراء عملية تسليم السلطة لأول مرة داخل الصومال، وهذا ما حصل في 2012م، حيث اختار زعماء العشائر، البالغ عددهم 135، أعضاء البرلمان وهم بدورهم اختاروا الرئيس حسن شيخ محمود ليكون على رأس أول حكومة رسمية اعترف بها العالم منذ سقوط النظام في عام 1991م.
الطريق إلى انتخابات 2016
وكان من المفترض أن يكون استحقاق 2016 مختلفاً، وأن يتاح للشعب حق اختيار ممثليه بناء على مبادئ اتفاقية "غروي" الثانية التي نصت على أن يكون استحقاق 2012 آخر مرة يختار فيها زعماء العشائر ممثلي البرلمان وفق هذه المحاصصة، وأن تكون الانتخابات حقاً للمواطنين، يختارون ممثليهم وفق الدوائر الانتخابية. غير أن الحكومة الفيدرالية فشلت في التمهيد لانتخابات عمومية، وأعلنت في بيان مشترك مع البرلمان عدم القدرة على عقد انتخابات عمومية في الموعد المحدد، وتعهّدت بإجراء انتخابات وفق أسس مغايرة لما جرى في عام 2012، على أن تحدد الصيغةَ النهائيةَ لجنة وطنية تضم رؤساء الولايات الفيدرالية ووزراء من الحكومة، والرئيس.
وأيّاً يكن الأمر؛ فإن الاستحقاقات النيابية والرئاسية الصومالية لعام 2016 تعتبر فريدة من نوعها؛ لأنها أول انتخابات تجرى في ظل أول حكومة رسمية للصومال بعد الحرب الأهلية وفي أكثر من مدينة صومالية، وهذا أمر جديد، إذ جرت العادة أن تعقد المشاورات خارج البلاد أو داخلها ولكنها لا تتجاوز العاصمة، أو مدينة غروي – المدينة المركزية للسياسة الصومالية بعد تبني الفيدرالية، والتخلي عن النظام المركزي الوحدوي الذي تبنّته الجمهورية منذ الاستقلال.
المحاصصة القبلية
لا يمكن لأي حكومة أن تتخطى ركن تشارك السلطة. اتفق الصوماليون في مؤتمر "عرته" للمصالحة الوطنية على التشارك في السلطة وفق محاصصة قبلية بحيث يكون لكل قبيلة من القبائل الكبرى نصيب متساوٍ في المناصب الحكومية، على أن يكون للأقليات نصف ما لتلك القبائل. تجري الاستحقاقات منذ عام 2000 وفق هذه المحاصصة. باختصار، لا يوجد في الصومال حتى أحزاب سياسية تتشارك السلطة، وإنما يتم تشارك السلطة بالتساوي بين القبائل.
الانتخابات "غير المباشرة"
تمخضت جلسات المنتدى الوطني للتشاور التي انعقدت في عواصم الولايات الفيدرالية خلال العام الجاري 2016، عن صيغة غير مألوفة، اصطُلح عليها بـ"الانتخابات غير المباشرة"، وهي مزيج من المحاصصة القبلية وتمثيل الولايات. فالبرلمان الصومالي لأول مرة سيكون له مجلسان: مجلس النواب ومجلس الأعيان، وهو ما يتطلبه النظام الفيدرالي المعمول به.
واتفق المجتمعون على أن يتم اختيار أعضاء مجلس النواب وفق المحاصصة القبلية كالعادة، وأن تقوم الولايات باختيار أعضاء مجلس الأعيان الذين يمثلونها. وستجرى عملية الانتخابات غير المباشرة في عواصم الولايات، بالإضافة إلى مقديشو. وسيتنافس على كل مقعد عدد من المرشحين، وستنتخبهم برلمانات الولايات. ويشترط لكل مرشح لمجلس الشعب الحصول على توكيل 51 شخصاً من عشيرته، ويختار هؤلاء الموكلون شيخ العشيرة.
ويبدو أن هذه الصيغة غير المألوفة لم تكن خالية من الإشكاليات، فبالنظر إلى الواقع الراهن، يظهر لنا أن الحكومة التي أهملت تحديد مقام العاصمة، تواجه الآن مشكلة نصيب العاصمة في مجلس الأعيان. فلا هي ولاية ولا هي عاصمة فيدرالية متفق على ماهيتها. كما توجد مشكلة تمثيل صوماليلاند، فهي من وجهة نظر أهلها جمهورية مستقلة تقاطع منذ إعلانها استقلالها المشاركة في أي استحقاق، ومن يدّعون تمثيلها ينتمون إليها عشائرياً ولا يمثلونها. أما من وجهة نظر الحكومة الفيدرالية، فهي جزء من الجمهورية، ولا تعترف بانفصالها، وذكرت الحكومة أنّها ستتخذ لها ترتيبات خاصة.
تفاصيل الاستحقاق
انتهت ولاية الحكومة الحالية في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، ووضع منتدى التشاور الوطني جدول الاستحقاقات النيابية والرئاسية وكان يفترض أن تبدأ في 25 سبتمبر باختيار أعضاء مجلس الأعيان، وتنتهي باختيار رئيس الجمهورية في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول،لكن ومرة أخرى، فشلت الحكومة في تحقيق ما وعدت به، وأعلنت مرة أخرى تأجيل الانتخابات بحيث يتم اختيار الرئيس في 30 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وقرر أعضاء المنتدى الوطني للتشاور أن اختيار نواب مجلس الشعب ومجلس الأعيان سيجرى في عواصم الولايات. وسيكون عدد نواب البرلمان 275 عضواً، وعدد أعضاء مجلس الأعيان 54 عضواً، على أن يكون 30% من المقاعد للنساء في كلا المجلسين، وسيختار هؤلاء الرئيس. أما بالنسبة إلى رسوم الترشح، فقد حُددت بمبلغ 5 آلاف دولار بالنسبة لمجلس الشعب حال كان ذكراً، ونصف هذا المبلغ إن كانت أنثى، بينما بلغت الرسوم 10 آلاف دولار في حالة مجلس الأعيان للذكور، و5 آلاف دولار للإناث. في حين يدفع كل مرشح للرئاسة مبلغ 20 ألف دولار. ولا يُسترد أي من هذه الأموال حال خسارة المرشح.
تقرر أن تودع الأموال في حساب بنك أهلي وليس البنك المركزي الفيدرالي، وسيتسلمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ويستخدمها للإنفاق على العملية الانتخابية. وتقول التقارير إنّ إجراءات الانتخابات غير المباشرة ستكلّف نحو 14 مليون دولار، ستدفع الأمم المتحدة 8 ملايين منها، بينما تدفع الحكومة الفيدرالية مليونين، ويؤخذ الباقي من المرشحين للبرلمان بمجلسيه ومن المرشحين للرئاسة.
جدير بالذكر، أن عملية اختيار أعضاء مجلس الأعيان اقتربت من النهاية، إذ قدمّت ولايات بونتلاند، وجوبالاند، وجنوب غربي الصومال، وغلمدغ، قائمة الأعضاء الذين اختارتهم برلماناتهم، وبقي ممثلون صوماليلاند وهيرشبيلي، في حين لم تبدأ بعدُ عملية اختيار أعضاء مجلس الشعب.
اختيار الرئيس
لم يُتح للصوماليين يوماً حق اختيار رئيس البلاد، حيث كان يتم اختياره من قِبل أعضاء مجلس الشعب. ولن يختلف هذا الأمر كثيراً في 2016، فالفرق الوحيد سيكون في كونه سيُختار هذه المرة من قِبل مجلس الشعب بالإضافة إلى مجلس الأعيان. ومن المقرر أن يتم في الثلاثين من نوفمبر المقبل.
وتضم قائمة أبرز المرشحين المحتملين للرئاسة الأسماء الآتية:
(1) الرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود، وهو المرشح الأكثر حظاً فيما يبدو، الذي اختار لحملته شعاراً مفاده: "لا يكمل العمل غير المنجز إلا من بدأه". لأنه كثيراً ما ذكر في تصريحاته أن 4 سنوات غير كافية لإنجاز ما يجب إنجازه. يعتمد شيخ محمود على دعم لوبي متغلغل في أجهزة الدّولة كافة، وعلى دعم دول خليجية.
(2) رئيس الوزراء المنتهية ولايته أيضاً عمر عبد الرشيد علي شرماركي، ويبدو أنّه يعتمد على دعم المجتمع الدّولي الذي دفع به لمنصب رئاسة الوزراء.
(3) فاطمة قاسم طيب، لاجئة سابقة، وعارضة سابقة، درست في هارفارد، وتقريباً هي المرأة الوحيدة التي تتنافس على منصب الرئاسة، ولكن لا أحد يأخذ ترشحها على محمل الجد فيما يبدو.
(4) عبد الرحمن فرولي، رئيس ولاية بونتلاند، الذي أعلن ترشحه بشكل مفاجئ، ويستند على دعم بونتلاند مع وجود منافس له هو عمر عبد الرشيد.
(5) شريف شيخ أحمد، زعيم اتحاد المحاكم الإسلامية، والرئيس الانتقالي السابق، يعتمد على جماعة آل الشيخ الدينية، والدّعم الإماراتي.
(6) جبريل إبراهيم عبدوللي، مدير مركز الأبحاث والحوار، يبدو أنه المنافس الوحيد الذي يحسب له حسن شيخ محمود؛ لأنه بالإضافة إلى كونه من عشيرته نفسها ما يجعل أصوات العشيرة مقسمة بينهما، يحظى بدعم الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدّولي أيضاً.
(7) شريف حسن شيخ آدن، الرئيس الحالي لولاية جنوب غربي الصومال.
(8) مرشح كتلة التغيير، هي كتلة تضم عدداً من الوجوه السياسية التي تطمح إلى الوصول على حساب حسن شيخ محمود، منهم علي حاجي ورسمي وزير التعليم السابق لولاية بونتلاند، وعبد الولي شيخ أحمد رئيس الوزراء السابق، ومحمد أحمد نور ترسن عمدة مقديشو السابق، وغيرهم. ولكن، لا يبدو أنّهم يملكون برنامجاً قوياً عدا الرغبة في إزاحة حسن شيخ محمود، لا يحظون بدعم أي ولاية أو كتلة عشائرية، ولا حتى دعم دول الجوار والمنظمات الدّولية المهتمة بالصومال.
ماذا نتوقع من هذه الانتخابات؟
من المنتظر أن تواجه الحكومة القادمة مشكلات كبيرة، من بينها عدم وجود دستور مصدَّق عليه، وعدم وجود محكمة دستورية تحل الخلافات الدائمة بين الرئاسة "البروتوكولية" ورئاسة الحكومة "التنفيذية"؛، لأن الرئيس عادة لا يقتنع بعدم التّدخل في صلاحيات رئيس الوزراء. كما أن الوضع الأمني أسوأ مما كان عليه في 2012، وحركة الشباب المجاهدين وفرع تنظيم الدولة نجحا في السيطرة على مناطق وبلدات عدة، كما تشهد بعض الولايات نزاعات تتعلق بالحدود، ما يعني أن أمام الحكومة القادمة الكثير من الأزمات لتعالجها، وبمن ثم من غير المستبعد أن تخفق في الوصول بالبلاد إلى مرحلة انتخابات يدلي فيها المواطنون بأصواتهم فيها، وتبقى المحاصصة القبلية ركناً أساسياً في استحقاقات 2020.