الحصار، وكسر الحصار.. هي جدلية ضاربة بجذورها في التراب والصلصال والحمأ المسنون وثنائية تثير في تمخضاتها عدة قضايا وجودية، فهي لا تموت مهما توالت المحن ومهما بلغ الخضوع مبلغه أو طغى الجنون.
نظام الفوضى وفوضى النظام، كنت أشبه بالذي به جنة أو مسّ حين حاولت منذ سنوات خلت أن أبني هرطقاتي على هذا الأساس وهذا التجلي.. إذ كيف يكون للفوضى نظام؟ وكيف يكون النظام فوضوياً؟ فهمت لاحقاً أنه ما كان عليَّ أن أستغرب ولا أن أغضب أو حتى أتذمر؛ لأني كنت قد تعلمت -متأخراً ربما- أن استخلاص السنن وتجريد القواعد يستدعي العمل على إيجاد توازن أكبر في تفاعل العقل بالفؤاد والحس بالمنطق والتفكر.
هكذا إذن تبدو الصورة، لا شيء في مكانه ما دامت الأشياء حملت الأمكنة تحت السياط -الرياح.. وتلاشى الأمس واليوم والغد- في حلم، في رقصة الضد مع الضد.
أكثر من سبع سنوات مرت، والحلم لا يزال يكبر، وهذا ما كتبت.
أشتاق إلى اعتلاء خشبة المسرح وقراءة نصوصي على جمهور عريض يضم أشخاصاً من ألوان وأطياف متعددة.
تبدأ قراءتي عادة هادئة ثم تأخذ نبرتي في الهيجان والقوة، ولعل ذلك بدافع الشعور بالرهبة قبل السيطرة عليها وتفريغها لاحقاً.
أتذكر سنة 2009 حين دعاني القيم العام لمكتبه، حسبت أنه سيحيلني على "مجلس التأديب"؛ لأني قبل ساعة خضت عراكاً مع قيم آخر… جلست على كرسي قبالته وقال: "أخبروني أنك شاعر ولديك إلقاء ممتاز" أجبته "ممكن" وواصل حديثه قائلاً: "ستعاقب لما قلته للقيم منذ قليل، لكن إذا قمت بإعداد أبيات تلقيها في الحفلة التي ستقام بمناسبة الانتخابات سأعفو عنك"، ابتسمت في هدوء وأجبته بالموافقة وأكد أنه يجب عليَّ أن أريه النص المطلوب قبل الحفل فوافقت مضمراً شيئاً آخر… عدت إلى الفصل سألتني أستاذتي: "لماذا قاموا باستدعائك؟" وأجبتها بالدارجة: "يحبوني نهز القفة"، قلتها بمرارة، أطرقت برأسي ثم عدت إلى مقعدي.
اليوم والبارحة، الحاضر يتقاطع مع الماضي في حلم ومبدأ، الرسالة التي تنضح حرية وكرامة وعدلاً هي النفس الذي نتنفس وهي السبيل من وإلى العقدة الكبرى "فكر عن الحياة والكون والإنسان، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها".
كنت قبل ذلك بأيام قد أنهيت نصاً شعرياً طويلاً عن فكر الثورة وعن حالة الوعي المجتمعي الكارثية، قررت أن أعتلي خشبة المسرح وهكذا توجهت في الغد على الساعة الثالثة تقريباً إلى "دار الثقافة"، متجاهلاً المرور على القيم العام ليفحص ما كتبت.
في خطوات ثابتة وتحت وقع نبضات متسارعة صعدت إلى المسرح، أخذت في القراءة بهدوء، كان الجمهور في حالة من عدم الانتباه إلى أن قرأت "مرحباً بك في عصر الآهات في وطن اللعنات هات صحنك اليوم سنقتات من جثث الأموات الأجساد الممدودة هنا وهناك"، علا صوتي في محاولة لجذب انتباه الحاضرين، كنت أتمادى حقاً هناك وكان صوتي آخذاً في الارتفاع أكثر فأكثر، انفجرت حماسة أمام غلمان النمط، وختمت نصي "مت ولا تنم، هاهنا مكمن الألم، هاهنا هاهنا ميلاد الفينيق المشتعل".
انتهى النص، أغمضت عيني، انحنيت انحناءة خفيفة، ثم خيم صمت مطبق، وفجأة عصفت بالقاعة الفسيحة زوبعة من التصفيق.
سررت لمرأى الوجوه المصفرة، وما إن نزلت من المسرح حتى عدت إلى منزلي ولم أنظر ورائي، مؤكداً أني قد فتحت صدري للرصاص والرصيف والحصار – أغنية… "سأرحل لأبقى".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.