قد تكون القيارة مدينة مُحررة من داعش، لكن الغازات السامة وحرق حقول البترول جعلا المواطنين يلهثون من أجل الهواء النظيف.
القيارة، العراق – طُرد مقاتلو داعش من مدينة سنية صغير بجانب القيارة، وعندما طُردوا منها أثنت الحكومة التركية على سكان المدينة البالغ عددهم 13000 لبقائهم في المدينة أثناء القتال، حسبما ذكرت صحيفة Middle East Eye الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول 2016.
وبعدم هروبهم من قبضة داعش لم يزد عدد الأفراد النازحين بسبب ما يحدث في العراق. كما أظهر سكان المدينة عزيمة قوية في ثباتهم وصمودهم ضد وحشية أكثر المجموعات الإرهابية التي يبغضها العالم.
لكن حتى إذا لم تدفع الميليشيات التي تهاجم أكبر مدينة سنية السكان للهرب، فيبدو أن التلوث السام الناتج من انتقام داعش قد يدفعهم لنفس المصير.
هربت مجموعة صغيرة من المسلحين كانت باقية في المدينة، وأثناء هروبها أشعلت النارَ في حقول بترول قريبة من المدينة. وفق تقرير كتبه باتريك أوسجود فإن الحقول تُعد صغيرة مقارنة بالحقول الأخرى في العراق، وتنتج نحو 10000 برميل من البترول الكبريتي الثقيل يومياً.
وتستخدم الحقول للأعمال المحلية في الأساس، كما كانت الحقول فيما مضى مكان عملٍ هام، إذ كانت توفر مئات الوظائف لأهالي المدينة، ويستفيد الآلاف من عمل أقاربهم في هذا المجال.
وفقاً لباتريك أوسجود فإن مقدار ما يُحرق من النفط يومياً يعادل 150000$ تقريباً في حقلٍ واحدٍ فقط، والذي ينبعث منه كتلة سميكة من الدخان، ويمنح جميع سكان المدينة شعوراً شديد السوء. كما أنها علامة لتذكيرهم بأن مجموعات داعش ما زالت تمثل تهديداً.
عندما تتجول في المدينة تجد أصوات الأسلحة لا تكاد تُسمع، وترى رماد بقايا السيارات المتفجرة في كل مكان. ولا تبعد مُقدمة الجيش العراقي إلا بضع مئات الأمتار من المحيط الخارجي للمدينة.
أحد سكان المدينة يُسمي نفسه أحمد يشرح لنا سبب بقائه في المدينة. "عندما أتوا إلى القيارة كانوا يعدمون الناس في الشوارع، قتلوا أخي، بقيت في المدينة لأن منزلي هنا، داعش لن تبقى إلى الأبد، وأعلم أن علينا البقاء كي نعيد بناء القيارة، ونبني العراق من جديد، فتبقى العراق صامدة عمراً طويلاً بعد أن تُمحى داعش. هذه كانت مسئوليتي".
ومع ذلك، وبالرغم من قدرته على التحمل، فإنه يفكر الآن في الرحيل. "أستيقظ كل صباح وأشعر بالتعب، لا أستطيع التوقف عن السعال، داعش لم تقتلني، لكني أخشى أن الأدخنة قد تقتلني".
مُحررة لكن سامة
أحمد ليس الوحيد، فالمئات من سكان المدينة أرسلوا إلى المستشفى لمشاكل تنفسية، نتيجة استنشاق الأبخرة المنبعثة، وأفادت التقارير أن 30 على الأقل لقوا حتفهم.
بدأ سكان القيارة في الهرب منها رغم أن المدينة محررة، لكن هذا هو وضع القيارة الآن. يخافون من الأبخرة السامة التي قد تفعل بهم ما لم تستطع داعش فعله.
بدأت العيادات الطبية في استئناف عملها مجدداً، لكنها تفتقر إلى الموارد كي تستطيع التعامل مع تأثير استنشاق الأبخرة -لا سيما أنابيب الأوكسجين- كما أنهم يعطون الأولوية للجروح الناتجة عن القتال.
مُنى هي إحدى السيدات اللائي هربن من سحب الأبخرة. عادت منى إلى بيتها في القيارة سريعاً بعدما تحررت من داعش، لكن بعد عودتها بيومين رجعت إلى معسكر مؤقت على أطراف مدينة أربيل. قالت "ليس هناك شيء أعود لأجله، مات زوجي، وأنا لا أستطيع عيش حياةٍ هادئة هناك، لن أربي أطفالي وسط هذه السموم".
وأسهبت في القول "حتى في ظل حكم داعش كنا نقدر على البقاء بعيداً عن المشاكل، فنبقى داخل منازلنا، ونصلي وقتما يطلبون منا أن نصلي، لكنك لا تستطيع الاختباء من الدخان". وأضافت منى "أصبت بالسعال المستمر عندما عدت، لم يستطع الأطباء فعل شيء هناك، لم يستطيعوا مساعدتي، كان علي أن أساعد نفسي".
ورغم عدم وجود إجراءات رسمية حيال الأمر، يبدي الخبير الجيولوجي تيموثي أتكن رأيه قائلاً إن مستويات الأبخرة وصلت إلى أعلى من الحد المسموح به للتلوث في الولايات المتحدة، وأضاف "هذه المستويات العالية من التلوث تسبب في البداية سعالاً وصداعاً، وقد تتطور فتكون خطيرة على حياة الإنسان".
لا توجد أية علامة على تحسن الوضع. وفي حرب الخليج، تتبع صدام حسين خط سير جيشه من الكويت بإشعال النيران في بعض أكبر حقول البترول في البلاد. وأكبر الحقول التي أُحرقت دام اشتعالها لأكثر من 10 أشهر، ولم تنطفئ النيران إلا بعد جهود فرق مختصة جاءت من الولايات المتحدة الأميركية.
ومع ذلك لا توجد علامة على وجود جهود مماثلة لإطفاء الحرائق في القيارة أو في أي مكان آخر. أضاف باتريك أوسجود في تقريره عن نفط العراق "تستمر الهجمات المدفعية والصواريخ في المنطقة، لذا فإن الوضع الأمني يعيق الاقتراب من مواقع الحرائق التي تحتاج لضخ مياه كافية لإطفائها في منابع الحقول المشتعلة".
وقبل زيارة صحيفة Middle East Eye بأيام، انفجرت ثلاث سيارات محملة بالمتفجرات في المدينة. ولحسن الحظ انطفأت الحرائق خارج المدينة، لكن التهديد ما زال حقيقياً جداً. وحتى إذا كان الوضع الأمني تحت السيطرة قليلاً فإن المسئولين سيظلون مفتقرين للتعامل مع الحرائق.
يشرح باتريك قائلاً "إن شركة البترول الشمالية لا تملك المعدات التي تمكنها من معالجة الحرائق في مثل هذا الحجم، وتقريباً لا يوجد من يستطيع معالجتها، فالحكومة العراقية تدعي أنها أحرزت تقدماً في إطفاء الحرائق، لكن الواقع أن الحقول التي اشتعلت ما زالت مشتعلة، وفي أثناء ذلك، يحاول العراق إقناع الولايات المتحدة الأميركية بمساعدته، لكن لا يوجد من يعرض رجاله للحرق أو القتل بتفجير آخر، فستظل الحرائق تشتعل ربما لأسابيع أخرى آتية، إلى أن تصبح المنطقة آمنة".
الأبخرة تُرى من الفضاء
أصبحت المشكلة مميتة في الأيام الحالية، فمسلّحو داعش أشعلوا النار في جزء من حقل الكبريت في المشراق -أحد أكبر المصانع في المنطقة- وانبعثت غازات كل من ثاني أكسيد الكبريت وكبريتيد الهيدروجين في الهواء الآن، والتي تُرى من محطة الفضاء الدولية. تدعي السلطات المحلية مقتل اثنين على الأقل، وإرسال ما يزيد عن 30 شخصاً إلى المستشفى.
أرسلت الرياح المتغيرة الأبخرة بالقرب من القاعدة الجوية في القيارة، حيث أُجبر المئات من أفراد مسلحين تابعين للولايات المتحدة الأميركية على وضع أقنعة الغاز أثناء العمل.
كما أمد الجيش العراقي بعض أفراده أيضاً بكمامات، لكن الحقيقة أن سكان المدينة المحليين هم من يواجهون الخطر الأكبر، كما أن قليلاً منهم يمتلك أقنعة الغاز أو يدرك خطر مشكلة الأبخرة.
أي تغيير مفاجئ في اتجاه الريح قد يعرض عملية استعادة الموصل لخطرٍ كبير. فبالقرب من الخطوط الأمامية في شرق الموصل تتحصن قوات البيشمركة الكردية، والتي يمتلك القليل من أفرادها معدات تحميهم ضد الغازات السامة.
خطر الأمطار الحمضية
كل من أنواع التلوث -سحب الدخان الأسود الكثيفة نتيجة حرق النفط، والانبعاثات الكيميائية الناتجة عن حرق حقل الكبريت- يشكل خطراً كبيراً على البيئة في العراق على المدى البعيد.
يحذر تيموثي أتكن قائلاً "عندما يختلط ثاني أكسيد الكبريت مع الماء يكوّن حمض الكبريت، الذي حالما ينتشر في الجو يتسبب في سقوط الأمطار الحمضية"، وفصل الشتاء يقترب بشدة في العراق -وهو الفصل الذي تهطل فيه 90% من الأمطار السنوية في البلاد تقريباً- ويزداد الخطر ويصبح مميتاً.
لكن الخطر لا يتعلق فقط بالضرر الواقع على الصحة البشرية، إذ إن الأمطار الحمضية تقتل النباتات في المناطق التي تهطل عليها، كما أن حجب أشعة الشمس بفضل سحب الدخان سوف يشكل خطراً مشابهاً على كل من النباتات والسكان.
القيارة قد تكون تحررت من داعش، لكن من الواضح أن أكبر مخاوف سكانها ومسئوليها لم تأتِ بعد. ويبدو أن ما يحدث الآن هو علامة على نوعٍ من التحدي الذي سيواجهونه بخصوص الأوضاع ما بعد وجود داعش في العراق.
الأمم المتحدة تحذّر
من جانبها أعلنت منظمة الأمم المتحدة للبيئة في بيان الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول 2016، تسجيل أضرار بيئية مع بدء عملية استعادة الموصل قبل 10 أيام.
وأوضحت المنظمة أنه "تم تحديد 19 بئراً نفطية مشتعلة عقب إطلاق العمليات العسكرية لاستعادة السيطرة على مدينة الموصل (…) وحرق مخزونات من غاز ثاني أكسيد الكبريت في مرفق صناعي ما أدى إلى تكوين سحابة سامة كبيرة".
وكان تنظيم الدولة الإسلامية الذي استولى على المدينة قبل عامين، سعى إلى إشعال حرائق في محاولة لتعطيل الأقمار الاصطناعية والغارات الجوية، من دون جدوى، بحسب محللين.
وأشارت المنظمة إلى "كوارث صحية خطيرة من اختناق وأمراض الجهاز التنفسي (…) يتعرض لها المدنيون" مشيرة إلى "تعرض أكثر من ألف شخص أواخر الأسبوع الماضي في نواحي منطقة القيارة وإجحالة ومخمور للاختناق نتيجة لاستمرار الانبعاثات السامة من حقول النفط والكبريت بالمنطقة بعد احتراق مصنع المشارق".
وتابعت "تدخلت الأمم المتحدة للبيئة، من خلال وحدة البيئة المشتركة وسهلت عمل خبراء المواد الخطرة الذين قدموا المشورة الفنية حول كيفية التعامل مع الحريق (…) ومحطة المياه ما أدى إلى تسرب غاز الكلور وإصابة نحو 100 من المدنيين الذين استدعت حالتهم العلاج الطبي".
وفي هذا الإطار، قال المدير التنفيذي للمنظمة البيئية الأممية إريك سولهايم إن "الانتهاكات المستمرة التي ما زالت تتعرض لها العراق على مدى العقود الماضية من عملية تجفيف الأهوار وتلوث الأرض والمزروعات إلى انهيار النظم البيئية تدعو للحزن والأسف البالغ".
وأشار إلى أن "هذه الإبادة البيئية الجارية هي بمثابة كارثة حقيقية تجعل ظروف المعيشة في المنطقة شبه مستحيلة، ما سيتسبب في زيادة غير مسبوقة في نسبة النازحين واللاجئين عالمياً".
وكان المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية العميد سعد معن أعلن السبت الماضي إخماد الحريق الذي أضرمه جهاديون في معمل كبريت المشراق جنوب مدينة الموصل.
وأكد مسؤولون عراقيون الخميس السيطرة التامة على الحريق في حين قال مسؤول عسكري إن الانبعاثات السامة أدت إلى وفاة شخصين.
وشنت القوات العراقية في 17 تشرين الأول/أكتوبر الجاري عملية واسعة لاستعادة السيطرة على الموصل ثاني أكبر مدن العراق وآخر أكبر معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد.