يخبرها – والسحر الرجولي يتمرجح بين عينيه – بأنها جوهرته الثمينة، وأجمل صدفة طرقت بابه، يمسك يدها الرشيقة ويكبس على أصابعها بعنفوانه الجامح، يهمس لها بأنها المحبَّبة إلى قلبه والمفضلة لديه وأنها ماسة وأيقونة نادرة وساحرة.
ويعود من حيث بدأ ليؤكد لها أنها جوهرة، تطول مقدمته بطول شعرها الغجري الداكن، الذي عشقها لأجله أول وهلة، ثم ينصرف إلى لب الموضوع وقضية القضايا وأم النوازل.. أنت جوهرة والجوهرة يجب أن تُحجَب عن الأنظار، أنت جوهرة والجوهرة مخبأة داخل خمار، أنت جوهرة والجوهرة يفسدها النظر، أنت جوهرة والجوهرة لصاحبها ولا يقبل أن يراها بشر، أنت جوهرة وأنا مالكها.
وبحُبي لك الذي يمنحني الحق فيك أرى أن تتحجبي، بما لي عليك من حقوق يكفلها لي الشرع والمهر الذي دفعت والعقد الذي أبرمت أرى أن تتركي عملك، بما لي عليك درءاً لكلام الناس وكلام أهلي أرى أن تغيِّري طريقة لبسك، بما لي عليك من ولاية ومعرفة كاملة لمصلحتك أرى أن تَلْزَمي بيتك، بقوامتي التي منحني إياها الشرع، آمرك بأن تتركي جامعتك فأنا أكفلك وأوفر لك المأكل والمشرب.
ما تختلف به الأنثى عن الرجل أنها أحياناً تسمح للغباء بأن يتلبسها كجِنّي كافر إذا ما لامس شيء من الإعجاب قلْبها، تستسلم للعينين الذابلتين وتأمن للوجه البسام وتركع لكلمة "حبيبتي"، وتقدم نفسها قرباناً للأقاويل والأشعار والحكايا والأوهام وقصص الروائيين وخزعبلات الأتراك، تقامر بحلمها لأجل كلمة حب.
كلمة يلقيها المتيم ليثبت لنفسه أن لا شيء ينقصه ليعيش قصة حب وليعيش دور الزوج، لا شيء ينقصه ليكون مثل كمال صديقه الذي أحب وتزوج وأنجب، لا شيء ينقصه ليكون مثل مراد ابن عمته الذي تزوج زواجاً تقليدياً ويعيش في هناء مع زوجته الجميلة، لا شيء ينقصه ليكون هو أيضاً سيداً في بيته يرتدي خاتماً ويجر بجانبه سيدة جميلة محترمة يخبرها بأنها جوهرته.
يصدق هو دوره وينساب في ترديد الكلام المرتب والملحن على مسامعها، وتصدق هي دورها فتتماهى في تجسيد العاشقة التي على أتم استعداد لأن تضحي بكل حياتها من أجل عينيه، فهي جوهرته، ملكه، وله، وشيء من أشيائه.
وتجسيداً لدور الرجل الآمر الناهي صاحب القوامة الكاملة، لا يلبث أن يمارس دوره في تشكيلها كما يشاء، معتقداً أنها بمجرد ما قبلت به فهي قد قبلت أن يعيد خلْقها كما يشاء وكما تُصور له رجولته في الحب ذلك، يحبها وهي سافرة الشعر ويأمرها بتغطيته بمجرد ما تخبره بحبها المتبادل.
يحبها بجنونها وضحكها وخفة دمها ويأمرها بالصمت والرزانة والانضباط فيما بعد، يحبها بأناقتها ولباسها الملون والمزركش ثم ينفعل ويرعد ويُجن جنونه إذا رآها ترتدي فستاناً كان يتغزل بها من قبل كلما ارتدته، ويأمرها بتغيير كل شيء وكل لون وكل فستان، يحبها كما هي أول الأمر، ويصر على إعادة صياغتها وعجنها وتشكيلها كما يحلو له ذلك، يحبها كجوهرة خام لم تخدشها مطرقة ولم يحدد أطرافها منشار صائغٍ، ثم يرغب في أن يكون هو الصائغ، يُقلم أطراف طموحها، ويرسم لها معالم الطريق التي يجب أن تسير عليها لتلائم "بريستجه" وطريقة تربيته وأفكار عائلته وتخلّف مجتمعه.
تقبل هي بدور الزوجة المطيعة الذي تلعبه فتعزو الأمر كله إلى الحب الكبير، والوَلَه الضخم والاهتمام والارتباط والوعد والميثاق والغيرة الجامحة.. تعطيه الحق بأن يخفي ملامحها، بأن يجعلها ملكية خاصة كالبيت والسيارة والأمتعة، تستيقظ بعد زمن طويل لتكتشف أنها تمارس دوراً وتلبس قناعاً وتجسد بطولة مسرحية متعددة الفصول، لا كيان، لا خصوصية، لا طموح، لا إنجاز، لا هدف، لا مشروع، لا قيمة، لا همَّ، لا قضية، لا عمل، لا شهادة، لا مركز، لا استقلالية.. سوى النكاح والأكل والنوم والسهر والتكاثر… فأين يكمن العيب يا ترى؟!
بعد سنوات تمر عليها مر الريح، خالية من كل شيء، اللهم قليلاً من المتعة وكثيراً من النوم.. حتى تصل مرحلة الملل من كل شيء، لتسأم هذه الحياة التي طالما منَّت نفسها بها، حياة فارغة، لا قضية تشغل الفكر ولا عمل يقيد الجسد، تستسلم لغريزة الكسل فيها وغريزة النحيب والأنين، تشكي حالها وتجعل من نفسها مسكينة قد ضُحك عليها.
تنسى أنها هي من تخلت عن كل شيء فيها أول الأمر وتكتشف أنها لم تعش لذاتها؛ بل لهذا الشخص الذي جعلها ملكاً له ولرغباته وبطنه ولأطفالهما، تواسي نفسها بأن مشروعها هو أطفالها وتربيتهم، فتجعل من نفسها ضحية أطفالها تحمّلهم فشلها في الاعتناء بذاتها وبلوغ حلمها، تلقي على أولادها باللائمة وأنها ضحت لأجلهم.
فمن أجل أن يتعلموا، حرمت نفسها التعلم، ومن أجل أن يعملوا حرمت نفسها العمل، ولأجل أن يحققوا طموحاتهم قتلت هي طموحها.. تفرح جداً بهذا التبرير السخيف، وتبكي جداً في دواخلها العميقة؛ لأنها على قناعة تامة بأن لو قاومت وناضلت وخرجت من دور الضحية الغبي الذي تتقن العيش داخله، لفعلت كل ما تتوق روحها ونفسها إليه.
تربية الأطفال لا تعني أبداً إقبار الأم ودفنها لشغفها بالحياة ومهاراتها في الإنجاز، والزواج ليس بحال من الأحوال رَكنٌ للزوجة على رف من رفوف المطبخ ولا إعادة صياغة جديدة لها بحيث تتماشى والدور المنوط بها لعبه.
صديقتي، لستِ أَمة، ولم تخلقي لتكوني جارية تفاصلين في مهرك وعدد أطباق جهازك، لست حتى جوهرة يخشى مالكها عليها النظر، فالجوهرة وإن غلا ثمنها تبقى شيئاً، يُلمس ويُخدش.. ويُغطى حتى لا تطاله الأيدي، لست شيئاً ولن تطالك الأيدي ما دمت واعية بماهية دورك في هذه الحياة، ليس الغطاء ولا أن تغلقي بابك عليك تتابعين المسلسلات وتطبخين الرغيف صباح مساء هو ما سيمنحك الرضا عن نفسك؛ بل ما وقر في عقلك وما سمت به روحك من إنجاز، ولو كان بسيطاً بحجم عمل يدوي تترجمين فيه شعورك وأحاسيسك.
الأقنعة التي نختارها؛ مرة باسم الحب، ومرة باسم الأمومة، ومرة باسم الواجبات الزوجية، ومرة باسم قلة الوقت، ومرة باسم فوات الأوان والتقدم في العمر، تقودنا لسن اليأس وتغرقنا فيه حتى يملنا اليأس ذاته.
صديقتي، إن الحب الذي يجعل منا فاشلات حتى في دراستنا فنرسب مراراً وتكراراً ونترك الجامعة والمعهد والقسم، الحب الذي يجبرنا على أن نتلون ونتصنع شخصية ليست لنا ودوراً لا يليق بنا ووجهاً لا يناسبنا، نعيش في جلد حرباء يكرهنا ونكرهه، نقتل ما يميزنا عن البقية لنصبح مناسبات للمقاسات المطلوبة في زوجة جيدة، إرضاءً للمحبوب أو أهله أو المجتمع، ليس حباً؛ بل وهم وهوس نتبناه لتبرير ضعفنا وفشلنا.
والأمومة التي تحولنا إلى عالات بشرية من دون أدنى هدف أو مشروع ذاتي شخصي بعيداً عن تربية الأطفال وتغيير حفاظاتهم وتعليمهم دروساً في اللباقة والأدب ثم نرمي بفشلنا على أطفالنا الذين ينتظرون منا أن نكون قدوات لهم، هي أمومة فاشلة لم تؤد دورها في الارتقاء بالمرأة من منزلة الأنثى المستهترة إلى أم مسؤولة، واعية بذاتها ورغباتها ومشروع وجودها؛ هي أولاً وهدفها من الإنجاب ثانياً، واعية بمسؤولية تكوين أمٍّ نموذجية.. وقدوة في العلم والعمل والشغف والإنجاز والإنتاج، ليس فقط في الطبخ والكنس وإعداد الرغيف والباذنجان المشوي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.