متى تستيقظ “اليتيمة” من سباتها؟

أتذكّر جيداً حواراً صحفياً أجرته صحيفة "الخبر" الجزائرية سنة 2008 -على ما أذكر- مع الإعلامية الكبيرة بقناة الجزيرة خديجة بن قنّة، قالت فيه بالحرف الواحد: «... لا أريد أن أبصق في البئر التي شربتُ منها، ولكنّ التلفزيون الجزائري يقدّم صورة بلدٍ متخلف عن الجزائر».

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/26 الساعة 04:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/26 الساعة 04:38 بتوقيت غرينتش

أتذكّر جيداً حواراً صحفياً أجرته صحيفة "الخبر" الجزائرية سنة 2008 -على ما أذكر- مع الإعلامية الكبيرة بقناة الجزيرة خديجة بن قنّة، قالت فيه بالحرف الواحد: "… لا أريد أن أبصق في البئر التي شربتُ منها، ولكنّ التلفزيون الجزائري يقدّم صورة بلدٍ متخلف عن الجزائر".

حينها كنتُ طالباً جامعياً في قسم الإعلام، ولم أكن أعي وقتئذٍ كيف تحولت أكبر مؤسّسة إعلامية في البلاد بحجم التلفزيون العمومي بنظر مذيعة مرموقة كخديجة، سبق أن مرّت بأروقتها، إلى مُصَدِّرٍ رئيسي للصور الرّديئة عن حاضر الجزائر -وربّما- مستقبلها أيضاً، وبعد ذلك بسنوات، ولأني مارست مهنة الإعلام، فإني أدركت أن التلفزيون الجزائري يقدّم فعلاً صورة رديئة عن الجزائر، ليس بالمفهوم التقني فحسب، بل بالمفهوم الفني والسيميائي أيضاً.

يُعتبر التلفزيون العمومي الجزائري أقدم المؤسسات الإعلامية التلفزيونية على الإطلاق مقارنة بنظرائه في العالم العربي، ذلك لأن نشأته كانت سنة 1956، بينما رأى التلفزيونان المصري والسوري مثلاً النّور سنة 1960، أما السّعودي فكان بعدهما بسنتين (1962).

أسبقية التلفزيون العمومي الجزائري على باقي التلفزيونات العربية من حيث الظهور لم تشفع له خلال هذه العقود الطويلة، ليجد لنفسه موطئ قدمٍ في مربّع الاحترافية الحقّة، فظلّ يسير بوتيرة واحدة منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا، لم يساير أبداً مفهوم التعددية الذي فرضته متغيرات سياسية واجتماعية كان عليه أن يستجيب لها؛ ليضمن لنفسه القبول لدى مشاهد جزائري فضّل أن يتوجّه نحو الشرق أو الغرب باحثاً طيلة هذه السنوات عن الشاشة التي تناسب ذوقه واهتماماته.

رافقت مؤسّسة التلفزيون العمومي أحداث مهمة منذ الاستقلال الجزائري، ووجدت نفسها ناطقاً رسميّاً باسم السلطة الحاكمة والحزب الواحد إلى غاية 1988، فكانت إلى جانب الرّاديو وبعض عناوين الصّحف قنوات الاتصال الوحيدة مع الشّعب، مروّجة بكل ما أوتيت وقتئذ من إمكانات لبرنامج الحزب الواحد، والنهج الاقتصادي الاشتراكي الذي كان الرئيس الراحل هواري بومدين يدعمه بقوّة ويراه الخيار الأكثر عقلانيةً وملاءمة لجزائر ما بعد الاستقلال.

استمرّ التلفزيون الجزائري بعد أحداث 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وما تلتها من أزمة سياسية خانقة في لعب نفس الدّور تقريباً، وهو الاصطفاف دائماً إلى جانب رواية السلطة الحاكمة، والترويج لنظرتها إلى الأحداث المتسارعة التي شكّلت تراجيديا مأساوية، ومحاولة إقناع المشاهد الجزائري المتوجّس خيفة مما تخبئه أيام "عشرية الدّم الحمراء" لمستقبله ومستقبل أبنائه، بأنّ بلاده تخوض حرباً ضدّ "الإرهاب" و"القوى الظلامية"، فما زالت تلك الصور التي كانت تبثها نشرة الأخبار الرئيسية (الثامنة مساءً) في تسعينات القرن الماضي حبيسة مخيّلتي -وأنا طفل صغير حينها- وهي تُظهر جثثاً مشوّهة لمسّلحين "إرهابيين" ملتحين، أتّذكرها اليوم وأقول في نفسي يا لها من "بروباغاندا عبقريّة"، استطاعت أن تولّد "فوبيا التغيير" في نفوس عامّة الناس حتى بعد كلّ هذه السنوات.

منتقدو الرّئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة يعتقدون أنّ أداء التلفزيون الحكومي في عهده حاليّاً، لم يكن أبداً أفضل من أدائه مقارنة بالحقب السّالفة، فمنذ توليه رئاسة البلاد سنة 1999، ظلت أبواب "مبنى شارع الشّهداء" مُغلقة في وجه المعارضين، مفتوحةً فقط أمام أولئك الذين يتبنون خطاباً متناغماً مع خطاب السلطة الحاكمة، حتى غدت شاشة التلفزيون الجزائري أشبه ببلاط حاكم أو ملكٍ من الملوك، يجتمع فيه الشّعراء المدّاح، الذين يستفيضون مديحاً وتملّقاً لدى أميرهم طمعاً في أن يُغدق عليهم بالعطايا، وبذلك يكون التلفزيون الجزائري قد فقد أهمّ وظائفه، وهي تكريس خدمة عمومية لائقة، مثلما تدعو إلى ذلك القوانين والتشريعات الخاصة بهذا المجال.

لقد استفرد التلفزيون العمومي بالميدان السمعي البصري لعقود طويلة، حتّى استحقت القناة التلفزيونية الرّسمية لقب "اليتيمة" عن جدارة، ذلك لأن قوانين الإعلام كانت تكرّس -إلى وقت غير بعيد- احتكار الدّولة التام لوسائل الإعلام الثقيلة (الرّاديو والتلفزيون) ما حال دون حصولها على أخواتٍ غير شقيقات، فأفرز ذلك الوضع بيئة غير تنافسية، جعلت من مضامين التلفزيون الرّسمي مضامين سطحية تخلو من الجدية في الطّرح، وتبخّر مفهوم الإبداع المرتبط بصناعة المحتوى السّمعي البصري وتحول الصّحفي في التلفزيون إلى مجرّد موظّف طلّق الابتكار ومعه الإبداع طلاقاً بائناً.

إنّ تسيير "اليتيمة" لا يختلف كثيراً -مع الأسف- عن تسيير باقي المؤسسات الحكومية في الجزائر، التي يغلب عليها الطابع البيروقراطي الموروث عن الحقبة الاشتراكية، ويخلو تماماً من الطرق الحديثة والمبتكرة في التسيير، وبذلك ستكون "اليتيمة" أمام خيارين: إمّا أن تستيقظ من سباتها العميق لعلها ترأب تصدّعات علاقتها بالمشاهد الجزائري، أو أن تختارهُ أبديّاً إذا ما قرّرت أن تسير على نهجها المعهود.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد