كانت تلك عقيدته ووسيلته أن يقتطع رطلاً من اللحم في حال لم يحصل على المال رغم ثرائه الفاحش، تمكن الشر منه، والخبث أيضاً أضمر في قلبه حقداً وكرهاً لمسيحي حتى تسنح له فرصة الانتقام منه، وعندما أتته الفرصة، قرر اليهودي شايلوك أن يأخذ من لحم المسيحي أنطونيو؛ لتبقى واقعة "تاجر البندقية" التي حدثت في فينسيا الإيطالية باقية في أذهان العالم إلى يومنا هذا.
رائعة شكسبير "تاجر البندقية" ربما كانت أول نقطة نور تسلط النظر على علاقة اليهود بالمسيحيين في المجتمع الأوروبي، وهو ما سبب معاداة التوجه الرسمي لليهود لشكسبير؛ حيث أبرز شكسبير مدى كراهية الإنجليز لليهود؛ لتكون تلك نقطة البداية في التفكير بطريقة تجلي اليهود من أوروبا.
إن رحلة إقامة وطن لليهود خارج أوروبا، التي أنتجت في النهاية وعد بلفور الذي أصدرته الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ حيث مر مسلسل توطين اليهود بمراحل متعددة، نهايتها كانت وعد بلفور البريطاني، إلا أن الحلقات الأولى شاركت فيها فرنسا، وألمانيا، وروسيا؛ حيث بدأت فكرة إخراج اليهود من أوروبا بوطن مستقل في أرض فلسطين.
وفي مقابلة مع مجلة "نيوستيتمان" بتاريخ 15/11/2002 أقر وزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو بمسؤولية بلاده التاريخية عن الكثير من النزاعات الحالية في العالم، والمنطقة العربية، وخصوصاً القضية الفلسطينية، والنزاع بين الهند وباكستان حول إقليم كشمير من خلال قوله: "أجد نفسي الآن في مواجهة الكثير من المشكلات التي أرى من واجبي الاهتمام بها، وهي جميعاً من مخلفات الماضي الاستعماري، فهناك وعد بلفور، والضمانات المثيرة للجدل التي أعطيت للفلسطينيين للاحتفاظ بأرضهم في نفس الوقت الذي أعطي فيه الحق للإسرائيليين في الاستيلاء عليها، وكلها تمثل تاريخاً عامراً بالإثارة، إلا أنه غير مشرّف أبداً، إن الكثير من النزاعات الحالية بين الدول هي من نتائج ماضينا الإمبريالي، وينبغي علينا تسويتها".
هذا التصريح البريطاني المتأخر لم يترافق ببذل أي جهد سياسي حقيقي يجعل البريطانيين يخطون خطوة واحدة باتجاه تكفيرهم عن ذنوبهم التاريخية لإلغاء بعض أو جزء من آثار وعد بلفور عن كاهل الشعب الفلسطيني، كما أن الحكومات البريطانية لم تقدم أي دعم للقرارات الدولية التي تدين "إسرائيل" على مخالفتها لكل القوانين والأعراف الدولية والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، مقابل ما شكله تصريح بلفور قبل 100 عام من تزييف للتاريخ.
العروس جميلة.. ولكنها متزوجة؟!
من هي العروس؟ ومن هو زوجها؟ وما مناسبة هذه المقولة؟
حين كان هيرتزل يروج للهجرة لفلسطين ويزينها في أعين اليهود ويحاول أن يصرفهم إليها بدلاً عن أميركا وقد قال قولته المشهورة عن فلسطين بأنها "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، الأمر الذي جعل الطبيب ماكس نوردو، الساعد الأيمن لهيرتزل، يرسل اثنين من كبار رجال الدين اليهود إلى فلسطين؛ ليقنعهم بفكرة هيرتزل، ولكن الحاخامين صدموا مما وجدوا هناك، وأرسلوا رسالة إلى ماكس نوردو قالوا فيها: "العروس جميلة جداً، ومستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً"، العروس هي فلسطين، وزوجها هو الشعب الفلسطيني، ففهم نوردو أن اغتصاب هذه الأرض لن يتم إلا بطريقة واحدة، وهي قتل ذاك الزوج.
فكانت 117 كلمة إنجليزية فقط هي التي زوَّرت التاريخ وغيَّرت جغرافيا الشرق الأوسط، أشبه بتغريدة على موقع "تويتر" في أيامنا هذه، لكنها كانت كلمات سحرية سوداء، وعد من شخص لا يمتلك بانتزاع وطن من شعبه، وشعب من وطنه، حوّلت شعباً كاملاً إلى لاجئين، (وإن كانت كلمة شعب فضفاضة لوصف حال اليهود حينها)، إلى مالك لأرض شعب اختلط دمه وعرقه بترابها، إنه "وعد بلفور"، فقد كان "آرثر بلفور" مهندس الفكرة ومجسدها السياسي، وبعد مضي عام وخمسة أشهر على توقيع اتفاقية سايكس – بيكو، صدر وعد بلفور في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني1917 كانت فلسطين لا تزال في يد العثمانيين، لم يحدد وعد بلفور حدود هذا الوطن القومي الذي اهتم الصهاينة بأن تشمل أرض إسرائيل الموارد التي تسمح بقيام دولة حديثة في فلسطين، فاهتموا بموارد المياه مثل نهر الليطاني ومنابع نهر الأردن وجبل الشيخ، فما هي الحدود التي طلبها الصهاينة لوطنهم القومي؟
وبعد صدور وعد بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان، رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك، إلى لويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا، طالباً تحسين حدود إسرائيل، حسب وعد بلفور؛ لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ، وتضم أنهار الأردن وبانياس واليرموك.
ورغم عدم وضوح أسباب هذا الوعد فإننا نجد تفسيرات مختلفة حول دوافعه، فبلفور نفسه يبرر عمله بأنه كان بدافع إنساني، أما المصادر الإسرائيلية التاريخية فرأت فيه مكافأة للباحث حاييم وايزمان الذي خدم بريطانيا، في ما يقولون إنها اكتشافات علمية أثناء الحرب العالمية الأولى.
وهذه التفسيرات ليست مقبولة استناداً إلى أحداث وقراءات تاريخية مفادها أن بلفور لم يكن يفكر في مأساة اليهود الإنسانية، فقد رفض التدخل لدى الروس لمنعهم من "اضطهاد اليهود"، كما أن مساهمة اليهود في دعم بريطانيا في الحرب كانت محدودة ومقتصرة على بعض اليهود غير الصهاينة.
أما لويد جورج، الذي أصدرت حكومته الوعد، فقد برر القرار في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" بعدة عوامل، منها ما يفيد بأنه كان هناك سباق مع ألمانيا حول كسب اليهود إلى جانبهم.
ورأت بعض الصحف البريطانية حينها في وعد بلفور إيجاداً لقاعدة صهيونية في فلسطين لحماية مصالح بريطانيا في المنطقة، فضلاً عن مد نفوذها الإمبراطوري إلى هناك.
ويمكننا القول إن الحركة الصهيونية كانت تبحث فقط عن تأييد دولي لتنفيذ مخططها في الاستيلاء على فلسطين، لقد عقدت الحركة الصهيونية على فلسطين، قبيل صدور تصريح بلفور في عام 1917، أحد عشر مؤتمراً عاماً، تم خلالها تحديد الخيارات الصهيونية، وتكريس هيمنة جناح الصهيونية السياسية الذي تزعمه منذ البداية تيودور هرتزل.
وقد استند إلى نظرية مفادها أن حل المسألة اليهودية لن يتم بالهجرة والاستيطان فقط، وإنما أيضاً بمساعدة واعتراف دوليين، وهو جوهر تصور هرتزل، الذي عبر عنه بمصطلح "البراءة الدولية" الذي استخدمه في المؤتمر الصهيوني الثالث 1899 بصيغة رسمية مفادها: "تتجه مساعينا صوب الحصول على براءة من الحكومة التركية، بحيث تأتي هذه البراءة في ظل سيادة صاحب الجلالة السلطان العثماني. وحين تصبح هذه البراءة في حوزتنا، شرط أن تشتمل على الضمانات القانونية العامة اللازمة، يمكننا آنذاك الشروع في استعمار عملي واسع النطاق، وسوف نجلب للحكومة التركية منافع كبرى لقاء منحها إيانا هذه البراءة، فقيام دولة لليهود على أرض فلسطين يعد تحقيقاً لما يعتقد "زوراً" أنّه من تعاليم الدين المسيحي، ففكرة "عودة" اليهود إلى أرض فلسطين برزت كشرط لعودة المسيح -عليه السلام- ودخول اليهود في المسيحيّة، وبالتالي نهاية العالم.
ومن الناحية السياسية، كانت بريطانيا تريد بهذه الخطوة ضمان تأييد اليهود في العالم في الحرب العالمية الأولى، لا سيما اليهود الموجودين في أميركا، الذين دفعوها بالفعل إلى دخول الحرب رسمياً عام 1917.
فعملت على تمكين هذا المشروع، فهي التي أسست لليهود، وهي التي دعمت استيطانهم، وهي التي مكنتهم من الاستيلاء على الأرض وتهويدها، وهي التي مكنتهم من إقامة الدولة، وهي التي قمعت نضالات الفلسطينيين، فعزلت فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي بوضع حاجز بشري من خلال استقدامها العمالة اليهودية، والسماح للوكالة اليهودية بشراء الأراضي وبناء المستوطنات، وتدريب الكوادر العسكرية اليهودية العاملة في الجيش البريطاني في المستعمرات البريطانية، وخصوصاً الهند، فضلاً عن تسليح التجمعات اليهودية بالعتاد الثقيل بذريعة حماية الممتلكات، كما أن بريطانيا، وبالتعاون مع الدول الغربية في ذلك الوقت، هي التي صاغت وعد بلفور ومررته إلى الدول الاستعمارية وأخذت عليه التأييد، وهي التي احتلت فلسطين منذ عام 1917 و1918، وهي التي باشرت تنفيذ وعد بلفور، وهي التي ألزمت نفسها بتطبيق صك الانتداب الذي أقرته عصبة الدول الاستعمارية على فلسطين، والذي ينص على إلزام بريطانيا بتطبيق وعد بلفور، بريطانيا عبر وفائها بوعدها الذي عجزت كل الدول الاستعمارية عبر التاريخ عن بلورة وعد كهذا، ما زال حتى هذه اللحظة يقتل ويدمر ويزرع الدمار والخراب في العالم منذ أكثر من 100 عام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.