عرفت البشرية -وما زالت تعرف- أوجهاً عديدة للجهل والسكيزوفرينيا والادعاءات على مر التاريخ، فمنهم من ادعى الألوهية، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من ظن نفسه المهدي المنتظر.
وواقع الحال في أيامنا هذه يبرز وجود مدعين للإصلاح والفلاح، كل بآلياته ومبرراته وخلفياته التي يغلب عليها طابع التناقض والضبابية، كأن لهم أكشاكاً من الوهم وبضائع لأفكار مستوردة في انتظار المشتري بالغبن.
لكن الإشكال يكمن في وجود أرضية لتلك الأفكار تتبلور فيها لتلقى في خضم الجهل معايش وسبلاً في ظل وجود مصالح متناقضة تسعى كل منها لبسط وجهات نظر ومرجعيات من خلال إصلاحات تشريعية وقانونية في نصوص ذات ارتباط اجتماعي يمس بشكل أساسي المواطن وعلاقته بمعتقداته ومرجعياته أحياناً، وأحياناً أخرى بحرياته الأساسية.
إلا أن الاختلاف في حد ذاته إضافة وعنصر مميز لكل دولة، فوجود الإلحاد لا يغير في الدين شيئاً، ووجود مدعين للإصلاح لا يغير ولا يسمن العقل السقيم ما دامت هناك ثوابت تؤطر الحياة بشكل عام.
فالاختلاف غني شريطة احترام خصوصيات كل فئة، دون غلو أو إقصاء، لكن لعل أغلب المتتبعين للشأن العام مهما اختلفت الأزمنة والرقع الجغرافية، يلحظون حصر النقاش العام على بعض العناصر الشاذة وتحويرها عوض الانكباب في دراسة ومعالجة الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في كل بلد، وادعاءهم وجود توكيل للتكلم باسم الشعب بالإفك.
لكن حبانا الله بمثقفي الأرفف والمكاتب، فكلما علا صوت الحداثيين أو تمت الدعوة لأمر شاذ، تراهم متخذين من الصمت شعاراً ومنهجاً، فاسحين المجال للطرف الآخر للابتداع، ومن بينهم رجال دين وساسة وغيرهم ممن ادعوا علو الفكر وسمو الحال.
ونمثل لهذه المواضيع بشكل أساسي ببعض النقاشات ذات الارتباط بالشأن الديني وعلاقته بتطور المجتمع؛ حيث حدد هؤلاء أنواعاً للدين والتدين، فمنهم من دعا لتبني دين جديد منفتح أو دين حداثي تقدمي، وآخر يدعو لعزله عن باقي المجالات وحصره في المساجد، ومنهم من يهدف لانتشال كل تمظهر ديني بالدولة، بدءاً من الدستور، معتبرين أن جعل دين الدولة هو الاسلام فيه إقصاء لمكونات اجتماعية وإثنية أخرى واحتقار للأقليات، وكذا حذف باقي تمظهراته في القوانين الداخلية، وتبني المفاهيم الكونية لحقوق الإنسان.
ومن بين القضايا التي تحظى باهتمام هؤلاء، نجد مناداتهم بإلغاء التعدد وبالمساواة في الإرث حياداً عما نص عليه الشرع والتشريع؛ حيث قال جلَّت قدرته: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" (الآية 11 من سورة النساء).
فبالرغم من صراحة النص القرآني وحسمه للنقاش في هذه النقطة، فإن هذه الآية لم تستسغ لكثير منهم، فجنحوا للقول بأن القرآن قابل للنقاش والتطور مع كل مستجد، ولا وجود لقطعيات، فكل آية -على حد قولهم- قابلة للنقاش واعتبروا أن القرآن والسنة مجرد تراث.
ومن بين أقوالهم كذلك، المناداة بعدم تجريم العلاقات خارج إطار الزواج، معتبرين ذلك حرية شخصية، حياداً عما نص عليه الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي الذي نص على أن:
"كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة".
ومثله كذلك تنديدهم بعدم مشروعية الفصل 489 الذي ينص على ما يلي:
"يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألف درهم من ارتكب فعلاً من أفعال شادة مع شخص من جنسه، ما لم يكن فعله جريمة أشد".
ولعل أكثر المواضيع قرباً لقلوبهم وأكثرها تداولاً بصفة دورية هو الفصل 222 من القانون الجنائي الذي ينص على أنه:
"كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من اثني عشر إلى مائة وعشرين درهماً".
مع تركيزهم على مفهوم الحرية الفردية، متخذين من الغلو والإطلاق فيها منهجاً وطريقة، مغردين خارج سرب القيم والثوابت إن ظل ثابتاً.
وبين كل ذلك، يظل الإعلام الموجه الرئيسي للرأي العام، ففي ظل انتشار الجهل يصدق المواطن ويتبنى أفكار الجهة الأكثر بروزاً على الساحة الإعلامية في غياب مفلتر ومرجح لتلك الأفكار، وبالتالي فالإعلام قد يوجه الرأي العام لتوجهات ما كان ليهتدي لها لولاه بشكل قد يكون مقصود أحياناً أو بشكل اعتباطي أحياناً أخرى، مما يؤثر بشكل أساسي على التوجه العام للمجتمع وطريقة تقييمه للأمور.
مما يدفعنا لطرح التساؤلات التالية:
أي تقدم وانفتاح نسعى إليه؟ وفي أي إطار سنهتدي لذلك؟
وأسئلة أخرى تضطرب لتجد إجابة في ظل واقع متناقض البنى والأسس، يهيمن عليه من جعلوا أنفسهم أبواقاً للحق وهم عنه جاحدون، فصار العلماني يفتي في الدين، وصار الفقيه يؤسس لنظريات في السياسة، فاختلط هذا بذاك، وأنتج مجتمعاً تائهاً عن الحقيقة ومشتت القيم، لا هو بمسلم ولا هو دون ذلك.
نقول إن الحرية مجرد وهم ومفهوم هلامي، لا يحده العقل البشري ولا يستوعبه ما دامت الرؤى مختلفة، ولذلك فلا غاية ترجى من الغلو فيه أو حتى تمتطيه ليشمل أوضاعاً شاذة بدعوى التحرر، فلكل فرد تعريف للحرية وتفسير بناء على خلفيته وتنشئته الاجتماعية والوسط الذي تبناه، فالحرية في المنظور الإسلامي مغايرة عما هي عليه في المنظور الغربي، إلا أنه لا حرية خارج الثوابت والقانون؛ حيث يجب أن تسيج إرادة الفرد بضوابط وقواعد ومحددات منها ما هو ديني ومنها ما هو قانوني؛ لتشكل نسقاً ومنظومة متكاملة للحد من تأويلات الفرد لمفهومها قصد تجنب كل تأويل شاذ.
لربما سنتخذ من التيه شعاراً للمرحلة، خصوصاً إذا ما بلغ بعضهم مركز القرار أو سار نحوه أو أدلى بدلوه وأفتى، فقالوا: قوموا للجهل قانتين، ذاك ما نبغي وهو السبيل متى أقدمنا، فلا فكر ينهي ولا فقه يعلي، كونوا كما أردناكم، قانتين ومنشغلين بتفاهات الزمان، وعنا غافلين، كونوا كأسلافكم منعمين بجهلكم، وكونوا كل شيء إلا ما أردتم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.