ويَحدُث أن تَرتَمي الشَمسُ في حُضنِ السَماء، تَتَشَبّث بِثيابِها صُعوداً نَحوَ وَجنَتيها، تُجهَد في المحاوَلَة فَيَخبو شُعاعُها، حَري بِهذه اللحظات أن تُشاهَدَ وتُدَوّن.
مَلَلتُ الجُلوس، ووَخزني ضَميري بَعدَ عَن أفاقَ مِن نَشوَة هذا المَشهَد بابتِسامَةٍ أصابَ بِها بُؤبؤ عَيني الذي تَقَلّصَ ليلمَع في وجهي ضَوء الشارِع الذي يَعمَلُ وحيداً بينَ رفاقِه.
وسِرتُ أبحَثُ عَن نَفسي، لَم أجدها في البِئر، ولَم ألحَظ طَيفها بينَ البساتين الورديّة، كالباحِث عَن واحَةٍ مُخضَرّة في صَحراءَ قاحِلَة.. إلا أن حديثاً ألحَظُه بينَ الورد أحيا داخِلي الإنسان الذي فِيَّ.
صَوتٌ رقيق لعشرينيّة تقولُ فيه: الحُب: إشباعُ القَلب بالموسيقى.. ويُجيبها صَوتٌ ضَخَّمَته الأيام، وتَزاحَمَت أنفاسُ الحِكمَة بينَ انحِناءاتِ حُروفِه مُستَفهِمَة: وما موسيقاه؟
تُجيب الرقيقَة: صَوتُ الله يُناديكَ إنّي ارتضيتُ فُلاناً لَكِ فَأحِبّيه، والله لا يُنادي قَلباً تَعلّق بغيره.
يزداد الصوتُ المُقابِل حِدّة، ويَكأنّ خريفاً أسقط حِكمَتَه، وداءً عُضالاً نَخَر في نِقاطِه فَتبعثَرت، فانطلَق بعد أن عَقد "ال" التَعريف بِقول: "لا "، هكذا لَن تتزوجي أيتُها الحَمقاء"..
أفقتُ مِن نَسمَة هواءٍ عابِرة، لَكنّي لَم ألحَظ سَهمَاً اختَرقَ قلبي كانَت تَحمِله بِخفاء، إنّه صوتُ طِفلَةٍ لَم تَتجاوز العَشر الأولى، عَذباً، مُنَغّماً، مُترنّماً.. يَعكِس كُل البَراءَة التي لمحتُها من وجهِها حينَ قامِت من بينِ أزهار الورد التي شابهتها، فقُلت: يا لَك مِن فَتاةٍ شَقيّة تُجيدينَ التَقليد!
ضَحِكَت بِخَجَلٍ وقالَت: هذا ما علّمني إيّاه الورد.
الورد!! وكيف تَسمعينَ صَوتَه أو تَتلقينَ عِلمَه؟
أجابَت بِثِقَة: عَلّمني والدي -رحمه الله- كيف أسمَعُ صَوتَ الصَمت.
قُلت بعفويّة: عَلّميني أيّتها المَجنونَة مِمّا علمكِ الله. قالَت بِفطنَة حَكيم: العِلمُ لا يَزور قَليلَ أدَب.
استغفَرتُ اللهَ طَمعاً بالعِلم واعتذرتُ بأدَب، فأتبَعَت كَلامَها كأنّها صَمّاء عَن زَبَد الكَلام: ونيّة صادِقَة.. ونيّة صادِقَة.
اختَنَقَت داخِلي كُل الحُروف، تَذكّرتُ وُعّاظَنا ومَشايخنا.. انتابَني شُعورٌ بأن الأعمى يُبصِرُ بِعصى بَيضاء أو يُقارِب، وذلكَ الشاب الذي تَزُفّه القِطَط لا تَنفَعه عَصا القَش ليَتّكئ عليها أو يَهُشّ بِها عَلى سُخريَة الأولاد.
تَوضّأت بالإخلاص، وتَطَهّرتُ بالاستعاذَة واستقبلتُ قبلة وجهها بعد أن كَبّرتُ العِلمَ عَلى السِن أسنَدتُ أذُنَي على امتِدادِ صَوتِها، واستفتَحتُ بحمدِ اللهِ وحَثّها عَلى الحَديثِ فَقُلتُ: الآن يا قارِئَةَ الصَمت.
– قالَت: الوَردُ يا بُنَي.
– ابتَسمتُ.
– أكمَلَت بِحكمَةٍ طَواها الفَهم: إنّ مَبَلغ العِلم ما تُعطيه الأمّ لولدها.
– اعتذرتُ.
– تابَعَت: الوَرد يَعتَنِقُ العَبير كَما يَعتَقِلُ عَقلُكَ فِكرَة، هَل رأيتَ فِكرَةً مُعتَقَلَة يُرهِبُها سَوطُ جَلّاد، كَذلِكَ الوَردُ تَحتَ بيادَة العَسكَر، لن يَسلِبها العَبير مَهما أوغَلَ، وإنّ قَرّر تَقطيعَها ستنَشَر ريحُها الزَكي أكثر.
كُنتُ كالطِفلِ المُتَسَمّر أمامَ شاشَة التِلفاز، أخذَ كَلامُها كُلّ تَركيزي، كَطِفلٍ يَستَكشِف سِر ظِلّه.. عَدّلَت جِلسَتها، ولَعِبُ الهَواءُ بِخِصَل شَعرها الحَريريّة، فَأسَرتهُ خَلف شَحمَةِ أذِنها المحمَرّة وتابَعت:
الوَرد صَمتٌ ناطِق، ومُعلّم مُحتَرِف، إنّه سَفينَةُ نوحٍ يَتَسِعُ لِكُلّ البَشَر، آلَةٌ كاتِبَة تُشَكِلهُ كَطينَةٍ بينَ يَدَي مُحتَرِف، لُغَةٌ يَفهَمُها كُل البَشَر بِلا عَناء.
بالوَردِ تُصلِحُ حَبيبَاً جَفا، وتَزرَعُ دَعوَةَ أمٍ في كَبَدِ السَماء.. إنّه سَيّد المَخلوقات، ورفيقُ المُلوك، وسَميّةُ العُشّاق.. يَتَلَفَظُ عَنكَ دُعاءً للمَريض، ويَتَفَجّر إن شَرعتَه في وجهِ أخيكَ الظالِم قُنبلَة.
بالوَردُ يا صَديقي تُخاضُ المَعارِك، وتُقاتَل الناس وتُقَتّل، إنّها المَعركَة الوحيدَة المحسومَة، احمِل وردَةً وسَتَنتَصِر، قَد تَموت، إنما تَموت مَوتَ الفائِز، إذ لا أحد يَعتَرِف بِحَرب العِطر إيّاك، وليسَ في الكَون مَن يَرى بِرئتيهِ غَيرُك.
هَل راقَبتَ وردَةً تَنمو مِن قَبل؟ هَل تَجرعتَ ألمَ الرَمل الذي يَخنِقُ ساقَها السُفلي، أو أحسَست بِعَطشها حينَ أذنبَتَ فَمُنِعَ مِنها المَطَر؟ صامِدَةٌ يَلفَح الريحُ خَدّها الوردِيّ، وتُعَذّبها الشَمسُ بِحرارتها غيرَةً، ولا تَسمَعُ لَها إلا "أحَد.. أحد"، تَحتَمِلُ وخزَ الشَوك وتُغطيه بِبَتَلاتِها خوفاً عليهِ مِنَ البَرد.
رغم كُلّ هذا تُعطي بلا إمساك، وتَمنَحُ بِلا مِنّة، لا تَبتَغي جَزاءً ولا شُكوراً.
اتخذَت قَرارَها بالعِزّة والحُريّة، فَضَّلَت الصَبرَ عَلى السَلامَة فَكانَت عَزيزَةَ الجانِبِ مُكرَمَة، وعَلى النَقيضِ تَماماً "لما آثر الحشيش السلامة، صار مرتع الحمير وعلف البهائم، ورخص وداسته الأقدام، حتى غدا رمز المهانة".
أطَلَّ القَمرُ بِبَهائه ثالِثاً بينَنا مَتَحَجّجاً: ما اختَلى اثنان إلا كانَ القَمرُ ثالثهُما.
فقالت وكَأنّها أنا: نَعَم نَعَم حينَ يَغار القَمر.. تَراقَصَ الوردُ بعبيرِ ريحِه، فأغلَقنا عُيونَنا بِظلامِ الليل، وفَتَحنا صُدورَنا نَرى هذا الجَمال الفَسيح.. فَقالَت: اشرَح ما فَهمتَ وأوجِز.
قُلتُ: "مُلهِمي في الصَمت استنطاق الحَرف الكامِن في جَوفِه، وتَجلّيه في تليينِ عِصي المَعنى، فالمَعلوم آيِلٌ للمَوت مِن تِكرارِ البَشر لَه، والمَخبوء آيِلٌ للخُلود كَموهِبَة استنطاقِ الكَون".
قاطَعَتني بعد أن سَمِعَت صُراخَ والِدتها عَليها: أوجِز بِكَلِمَة.
قُلتُ: ولا يزال الوَردُ طويلِب علمٍ يَرى في الأمّ قُدوَة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.