في النفوس خطرات، وفي الأجسام حركات، ما رأيكم لو ركبنا معاً قطار اﻷجيال؛ لنسافر به عبر مراحل وأنفاق قرون الزمان، لإجالة التبصر فيه، والتعرف به على محطات عبور العصور التي دلفت علينا، ابتداء من الأجداد، والآباء، مروراً بنا وأولادنا وأحفادنا، من بداية القرن السابق، حتى قرننا الحالي، مع العلم أن كل جيل هو ثلث قرن من الزمان.
محطة جدي الحبيب
دقيق كبندول الساعة، مقتضب متجهم المحيا والمنظر، تلأﻷ وجهه الأبيض بخصلة شعر من طربوشه الأحمر، شاربه مفتول أسود، نظرته جامدة بهيبة ووقار، لا خوف، بل احترام وسلطة، النبل والبساطة والشرف، يحدثك به سمة المرسم، هو الحاكم ونحن المحكومون، له السيادة وعلينا الخضوع، له الرسم وعلينا التنفيذ، له الرمز وعلينا التأويل، والويل الويل لمن تبرم بالتصريح، أو تجاوز الطاعة والتقاليد، تلك كانت سلطة جدي في الزمن الماضي البعيد.
سي السيد في ذاك الزمان أصبح من الماضي السحيق، إنه جيل القلة والفقر، جيل القناعة والرضى والتبرير، جيل العصامية وقلة الموارد في الكسب، فلا تبديد ولا تفريط، جيل الوطنية لدحر الاستعمار البغيض، وتأسيس الجمعيات الوطنية، ومؤسسي الفكر القومي العربي العتيد، وحركات التنوير، المنفلوطي بنظراته وعبراته، محمد عبده، والكواكبي في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "أضر شيء على الإنسان هو الجهل، وأضر آثار الجهل هو الخوف"، جيل حارب الاستبداد، فهو جرثومة كل فساد، وداء أشد من الوباء.
جيل قراءة فنون اﻷدب، وعلوم اللسان بصالونات قرض الشعر كمي زيادة وجبران خليل جبران -ليس من يصغي للحق بأصغر ممن ينطق به- وأحمد شوقي، فالخروج من القبضة التركية ولد الجهل، وهذا يحتاج لسواعد تلاطم تيارات التخلف، وبناء جامعات ومنارات للعلوم والتنوير.
جيل القيم والمحافظة على الخلق القويم، فرأي حر، وصاحب عقيدة وتقويم، هو أستاذ في حفظ القرآن الكريم، وتلميذ في اﻷزهر الشريف، ذاك الجيل قضم القليل وعاش كأنه ملك بلا تتويج، كافح بلا كلل، ولا ملل، إذا اشتغلت نلت، وإذا بلدت حرمت، من عرق الجبين يكون قمباز الروزة وطربوش الوجاهة، اعتز بكسب الحلال، فبارك الله في ماله وذريته، وسلطته.
من هنا كنت يا جيل جدي، تتوكأ على الأيام، وتهش بها على ربيع الامتياز، تبلع الصدمات، وتتثاءب على الأحلام، فرغم كبرها فإنها أجلت، بسبب حروب عسكرت.
محطة والدي الحبيب
جيل القناعة والنزاهة بامتياز، والشبع بأقل الماديات، والصدق، والصرامة، في المعاملات والتطبيقات.
الحساب يسجل بالتعريفة والمليمات، التدقيق أول اﻷولويات، من جد وجد ومن ضاع انحرف، الجاهل نكرة، والمعرفة أبهة، السباق هو القناص، والخائب هو الخسران.
طه حسين، بكتابه اﻷيام، والرئيس جمال عبد الناصر قائد الضباط اﻷحرار، جون كندي، وعدو التمييز العنصري مارتن لوثر كينغ "لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إﻻ إذا انحنيت"، هؤلاء جيل العلم والطموح، جيل السياسة والنفوذ، والتحرر من القيود، كما أنه جيل الرومانسية كفرانك سيناترا، وإلفس برسلي، وكندي مع مارلين مونرو، وأم كلثوم، والرحابنة أهل فيروز.
إن استقلال البلد انعكس على الشخصية، فالرومانسية زادت، والرخاء عم، والتفاؤل طفح بالكأس، هذا هو جيل الرومانسية، والطموح، والوصول للقمر بمركبات للفضاء في واسع الكون العريض.
حتى كان الزلزال عندهم، حرب فيتنام، واغتيال كندي ومارتن لوثر كينغ، وعندنا كان الدمار، بل قل الهاوية وما أدراك ما الهاوية، أمه الهاوية، إنها كنار جهنم حارقة، نكسة يونيو/حزيران التي قلبت الموازين، لتغلب قوى الشر على قوى الخير، الهزيمة على النصر، والإحباط والكآبة على اﻷمل والانفراج، وبعد ذلك يسمونها نكسه، إنها موت وعذاب، هجرة وشقاء، ذل ومؤامرات، فوضى لنظام، وبلع لبلاد، بضحايا بالمئات.
البراءة أعدمت، بحور الكيد والمكر طغت وفاضت على شواطئ الهزيمة والبؤس، اجتياحات واغتيالات، وهوان بالبلاد والعباد، اﻷمة أمست فرداً لانعدام الثقة بالحاكم وأصحاب القرار، الحياة ليست حياة، والسلم ليس حرباً، بل أشد وأمر علقماً من الحرب، مما استدعى الكفاح، والنضال والمزيد من الاحتقان، إلى اتفاقيات كامب ديفيد السيئة الذكر، مروراً بحرب الخليج الأولى والثانية، التي اغتالت ما بقي من حلم.
هذا هو جيلنا الحاضر، النكسة تعددت أرحامها وتشعبت؛ لتلد المصائب المعاقة، بولادة عسيرة لتكون سوية، وهزلية لتكون جدية، مفاوضات بذهاب وإياب، ومشاورات عقيمة بلا أفق لنهايات.
الوصول لمحطة الأولاد وشبيبتنا بعالم الضياع، آباء بأجنحة مكسورة، محاطة بجدار عنصري، مقيد مكبول، للنفس والمكان، نفوس مغروسة بأرض محروقة للبلاد.
جيل غريب لا أدري، هل هو مقاوم للصدمات عصي عن الانكسار والدمعات؟ أم العولمة والتكنولوجيا رمته في زوايا القسوة، واعتياد الذل واللامبالاة، فالأشياء تأتي لهم دون جهد ومغالاة، لماذا الهم والغم والأهل يلبون الطلبات؟ لماذا العناء فما أسهل الفراق والطلاق، فالإنفاق من غير حساب، والبنات يثأرن للأمهات، الزمان غير الزمان؟ لماذا ندخل الثور في قارورة الزجاج والحل سهل بكسر الزجاج؟
الأغاني هابطة بمصاعد الأخلاق، آخذة بطريقها لب الشباب، والتقاليد بالية، فنحن أحرار في الآراء، لماذا العجب؟ فالكبير ليس له ضابط ولا سلطان، وسيادته يضحك معجب بفهلوية الابن الضال، فالتمرد واجب وحق مكتسب لكل إنسان، فقد ولى نظام الأسرة المقيد بأطلال السلطة لزوال.
أيها الأبناء والبنات.. ارحموا عزيز قوم ذل بالمكان، هل تريدون المزيد من المحطات؟ حسناً.
جاء الأحفاد، وبأيديهم تذكرة للسفر للآفاق، جيل أناني للميلينيوم، وعسكرة لمحمول حديث لقصص الذكاء، قد رمينا عقل الذكاء واستبدلناه بأجيال الآي باد، والآي فون، والفيسبوك، والواتسآب، واﻹنستغرام، ألفية ثالثة بلا عداد، جيل اللاآت لا يريد أن يعرف، ولا يريد أن يدرس، ولا يريد السؤال، من أين أتى أو ولد، فهو عريف متوقع لكل شيء بداتا ذاكرة الجهاز، يريد كل شيء، ليس مهماً الوسيلة، بل الأهم الغاية للوصول لإيجاب، لا يحب التعب، ولا إنهاك العين بالبحث والتجوال، لم الغلبة، والأزرار حولنا تلبي الطلبات؟ نعم هي قاموسه، فالطلبات والطلبات دون شبع أو رقيب أو حساب.
أطال الله في أعمارنا وأعماركم، فقد أعطينا حتى فسد الجيل بإتقان، لنأخذ صورة سيلفي لأجيال المحطات، للتذكار والطلب، إن طلب بضم الطاء، يا صاحبي، فـ"ألزهايمر" بازدياد.
أعزائي.. أختم وأقول: لعل وعسى أن يكون اليوم وغداً يوماً مشهوداً، وأن يعود الزمن مشرقاً وجميلاً، لأجيال الخلف، كما كان يوماً من الأيام لأسلاف، نشروا السلام، وسطروا ملاحم العز والمجد، من الكرامة والوحدة والكبرياء، بخطوط طول وعرض، لبقاع الأرض، بلا انحراف عن دروب الكرامة في المكان، فصدق وإخلاص في القول والعمل، نكون أجيالاً من بشر تستحق الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.