يبدو أن الانتقائية سيدة الموقف هذه الأيام، والانقسام يَطال الجسد الواحد، حتى بات من الصعوبة أن تسمَّى الأشياء بمسمياتها، وليس هذا انقساماً في الشارع العام فحسب؛ بل يتعداه للفرد الواحد الذي انقسم لعشرة في آنٍ واحد، فهل هي شيزوفرنيا الرأي العام؟
لم تعُد المعلومة محصورة في مراكز الدراسات، وإن كانت أكثر دقة، فمواقع التواصل الاجتماعي، وبمتابعة عميقة، تمنحك رسماً بيانياً لتوجهات الرأي العام، بينما الرسم البياني نفسه ضاق ذرعاً بالعينة، ودخل حالة نفسية شديدة الأعراض، يتعذر معها فهْم الشارع العام.
بعض الانقسامات تتعمق وتخلق حالة انقسام من نوع آخر، ولها بصمتها المؤثرة، وبعضها الآخر ينام ويصحو ولا يكاد يُرى له تأثير، بينما هناك انقسام مؤثر ينال من فئة غير مشاركة، فالابتعاد في الظل لا يشكل حماية كافية لهؤلاء، خصوصاً ممن لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون الطاقة للتغيير.
وللأسف أتحدث هنا عن الفئة الأهم في المجتمع الأردني، تلك نفسها التي كانت جزءاً من ثورة الرأي العام الأردني خلال الأيام الأخيرة، ونفسها التي راحت في منتصف النزاع بين شد وجذب لطرَفين لا نستطيع حتى أن نُدرجهما تحت مسمى معين.
قصة بدأتها الحكومة الأردنية، ممثلة بوزارة التربية والتعليم، بتغيير مناهجها المدرسية للمدارس الحكومية، وكلمة تغيير المناهج لا تعبّر عن حقيقة الموضوع؛ لأنه لا تغيير ملموس طال الكتاب المدرسي؛ بل كانت عملية قص وحذف وإضافة نالت من بعض الكلمات والنصوص والصور.
لا أدري إن كان التغيير بهذه الطريقة الفظة الانتقائية هو شيء مُمنهج يسعى لإثارة الرأي العام، والواقع في زخم القضايا المتوالية واحدة تلو الأخرى، والتي أبقته مشغولاً جداً في الفترة الأخيرة، وهذا الرأي الأول.
وأما الرأي الثاني فيما لم يكن الأول صحيحاً، فإن المسؤولين عن إحداث هذه التغييرات هم ممن حادوا عن الحكمة والفهم للمناهج والطالب والمجتمع، وهنا أتساءل: إذا ما كانت هذه التغييرات تخضع لأي دراسات جدية وعميقة يقوم بها فريق مختص بالشأن العلمي والتربوي والمجتمعي في آن واحد!
ويبدو أن المسؤولين هنا أيضاً أصابتهم حُمى الانتقائية، فلم يغيروا المناهج عموماً بما يتناسب والتغيّرات المحلية والعالمية ومتطلبات سوق العمل، والمنظومة الأخلاقية، والبناء المجتمعي العملي، بل أزالوا آيات قرآنية من هنا، وغيّروا كلمات من هناك، وحذفوا صوراً وأضافوا أخرى تحت مبررات واهية غير مفهومة، بينما بقي النص والمنهج والكتاب والتوجه هي ذاتها، وأطلقوا على ذلك تغييراً، في الوقت الذي كان الأجدر فيه بالتربية والتعليم كوزارة أن تغير كامل المنهج مِن ألفه إلى يائه، لا صور وكلمات منتقاة بطريقة استفزازية.
العلمانية هي المصطلح الأكثر تكراراً في هذه القضية، بعد أن أجمع المندِّدون بالتغيير على أنه توجه علماني بحت، وهنا أتوه من جديد في فوضى الكلمات، خصوصاً تلك الفضفاضة التي تحتمل أكثر من سيناريو في الوقت الذي شكلت به التجارب المتعددة لدول مختلفة معاني أكثر للعلمانية؛ حيث يبدو جلياً اختلاف التجربة الأوروبية عن جارتها التركية مثلاً، وعما نشهده في الوطن العربي من توجهات نحو العلمنة في فترات زمنية مختلفة، وبصور مختلفة أيضاً تراوحت في تعاطيها مع الدين ما بين العداء والرعاية، تكللت بصور ظلامية في بعضها، بينما غدت مشرقة في صورٍ أخرى.
والآن.. أين الأردن من هذه السيناريوهات التي تثير الرعب في بعضها عند المواطن الأردني، سواء مسلم أو مسيحي؟ وما موقعه من جملة التغيرات الإقليمية والعالمية التي تأخذ شكلاً جنونياً يتصدره الإرهاب الديني باسم الإسلام، فسقطت دول وعاث المفسدون بأخرى حتى غدت رماداً؛ لتُرجعنا جميعاً إلى عصور الظلام والاضطهاد وغياب العدالة.
بالتالي فإن الموضوع أكبر من موضوع دعاء دخول الحمام، ومن صورة امرأة، طالما أن المنظومة الدينية والأخلاقية مهددة من عوامل خارج المنهج أصلاً، بينما المجتمع الأردني -وأكاد أجزم من حجم التسامح الذي نعيشه في حياتنا اليومية بعيداً عن الغوغائية الإعلامية- لا يريد امرأة محجبة، ولا تلك غير المحجبة، بل يريدهما معاً دونما أن تطغى إحداهما على الأخرى، في صورة واحدة تعكس احتراماً متبادلاً لكل أطياف المجتمع الأردني الواحد.
الوزارة تزيل آيات قرآنية وأحاديث نبوية ترى بها إرهاباً، بينما وبنظرة شديدة الحياد وبشهادة الغرب غير المسلم حتى لا تأخذنا العاطفة، فإن في القرآن والسيرة منهاجاً أخلاقياً وقيادياً يعكس صورة متفردة لدين يشكل تجربة فيها من الثراء ما يجعل منه مادة دسمة للدراسة والتحليل والتعلم في جانبه الأخلاقي، والتربوي، والقيادي، وتنظيم أمور الحياة.
وللأسف يأخذ الدين الإسلامي لدى غالبيتنا شكلاً صورياً أو مقتصراً على العبادات، بينما الدين معاملة ورسالة وأسلوب حياة يكاد يكون مثالياً، إذا ما تم تطبيقه بصورته الصحيحة، وأما المنهج المدرسي فما هو إلا خطوة تحتاج للتعزيز والتوجيه من المعلم والمدرسة والبيت والشارع، ولا جدوى لأي تغيير إذا لم يتم التنسيق بين الجميع؛ ليتناسب مع تحديات المرحلة، وهي ليست سهلة أبداً، وتحتاج إلى جهد جبار.
وفي السياق ذاته، أستغرب على الكثيرين مطالبتهم بتدريس الأخلاق كجزء منفصل عن الدين، والذي لا أقول إنه لا يجدي، بدليل وجود غير المتدينين بأخلاق مثالية، ولكن ألا يحتاج هذا الجيل والمنساق خلف "تعليق وإعجاب" إلى نموذج وحافز ومثل أعلى؟ وما الضير فيما لو كان هذا الحافز دينياً -إن اتفقنا أصلاً أن الأخلاق العليا هي الغاية منذ البداية، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يشكل خير قدوة لا ينكرها حتى غير المتدينين، إن نظرنا له كقائد لثورة دينية، وأخلاقية، وسياسية، ومجتمعية.
وبعيداً عن الدين، فكيف تصوغ الوزارة طرحها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المناهج؟ وهل ستتبنى خياراً دون الآخر في طرحها للطلاب، كما أفردت وحدة كاملة في مناهجها للصف السابع لمؤسسة نهر الأردن دون غيرها؟ وماذا عن الأحزاب السياسية الأردنية؟ ولمن ستميل الكفة في المناهج؟
الطالب الأردني الآن مُغيّب عن التفكير الناقد، وموجَّه عن طريق تلقين المعلومات ورصفها بذهنه، بطريقة جاهزة للتفريغ على ورقة سخيفة آخر كل شهر، تحدد مدى علمه ومعرفته بعلامة مخطوطة بأدنى درجات العناية بخط أحمر.
وهنا يبقى خيار الإبداع وتحفيز البحث وفهم الواقع دونما انقياد، كما القطيع بيد معلم مبدع، وقيادي يستطيع الخروج من حيز المنهج المقرر، وطرحه بطريقة علمية بحثية تثير الرغبة في الطالب نحو السعي لمعرفة المزيد، وعدم الاكتفاء بالطرح الموجود، الذي لا يعكس في مجمله سوى وجه واحد للمشهد تضيع معه الحقيقة.
وهذا يثير تساؤلاً جديداً حول إذا ما كانت الوزارة ستوافق على خلق مزيد من المرونة في التعامل مع مناهجها ومعلميها وطلابها، وهذا إذا ما تم، فإنه سيوفر على الدولة طباعة الكتب بهذه الضخامة، واستبدالها بأوراق العمل البحثية في كل المجالات، والإشراف على عمليات البحث والنتائج، خصوصاً في الصفوف العليا.
وتثيرني هنا التجربة الأميركية لاطلاعي عليها دون غيرها في الصفوف الإعدادية والثانوية، التي أشبه ما تكون بالنظام الجامعي في بلادنا بطريقة أكثر انفتاحاً؛ حيث يسمح للطالب باختيار المواد التي يريد دراستها في المجالات التي تستهوي، وقد تستغرب أن المناهج لديهم تضم مساقات في الطبخ العالمي والإعلام والتصوير والتصميم، وهنا يملك الطالب حق التجربة في كل التخصصات لصقل ميوله بطريقة صحيحة تجعله أقدر على اختيار تخصصه الجامعي فيما بعد، وهذا أكبر حافز للإبداع؛ لأنك وبسهولة لا تعي المهارات التي تمتلكها، طالما أنك لم تجرب شيئاً.
22% في الصفوف الثلاثة الأولى هم أُميون على مقاعد الدراسة، بحسب تصريحات الوزارة، فهل ستضيع البوصلة بينما نحن مشغولون بحرق الكتاب المدرسي هنا، وعقد المؤتمرات هناك؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.