في مصر لطالما حدثنا كبار السن عما يطلقون عليها "مصايف زمان" وعددوا لنا خصائصها التي حرم جيلنا البائس من التلذذ بها، حدثونا عن تلك المصايف التي لا تحتاج "فورمة" الساحل للذهاب إليها، والتي تلتقط الصور بها لتخليد لحظات الناس بعكس عصرنا الذي تنشأ وتعد اللحظات فيه لكي يتم تصويرها ورفعها على مواقع التواصل الاجتماعي.
حدثونا عن تلك المصايف قليلة الضوضاء بعكس ساحلنا الشمالي الصاخب الممتلئ بالشكليات التي يعاني منها مجتمعنا الشرقي.
تمنيت لو توصل العلماء إلى الاقتراب من سرعة الضوء؛ لكي نتمكن من الزمن حسب أينشتاين فنلقي نظرة على الماضي ونقارن بين رواياتهم والحقيقة المجردة فنرى إذا صدقوا أم أضافوا على رواياتهم من نسج الخيال، ولكن لأن ذلك مستحيل عملياً حتى الآن -وإن صح نظرياً- لا يوجد مفر من طرق الطرق التقليدية للتجربة، وإن اختلفت الظروف والأحوال.
خرجت من ذلك الفندق الصغير على كورنيش الإسكندرية خلال زيارتي السادسة لها لأتخطى الحاجز الإسمنتي وأنفرد قليلاً بالبحر الأبيض المتوسط، فلم أرَ البحر كما رسمه الكاتب عبد الوهاب مطاوع أو نجيب محفوظ، أو البحر الذي تحدث عنه جبران خليل جبران في قصيدته "صخرة الملتقي"، أو أي ممن تغنوا بزرقته وصفاء مياهه التي بعثت في نفوسهم الإلهام وحثتهم على كتابة النثر والشعر؛ ليعبروا عن أشجانهم وعما حملته قلوبهم، لم أرَ إلا بحراً قارب لونه على السواد من دكانة الاخضرار، لعل ذلك يعود إلى كثرة ما ألقي به من مخلفات مصانع أو مياه صرف صحي ناتجة عن 6 ملايين من سكان الإسكندرية في صمت مخيف.
حاولت أن أعوض ذلك المنظر المؤلم بجرعة كبيرة من الهواء النقي الحامل لملوحة خفيفة مع رائحة زفارة السمك، ولكنني بدلاً من الهواء النقي اشتممت رائحة أكوام القمامة الملقاة بجانب الأمواج.
تمشيت قليلاً لأجد بائعاً للذرة فتجاهلت معدتي المتوعكة من أكلة كباب مطعم "بلبع"، وابتعت ذرة مشوية، والمشكلة لم تكن في الذرة – الحمد لله وإنما في الكوز – الذي تبقي بعد قضماتي الممزقة – عارياً تلاطمه الرياح، فكرت بإلقائه في عرض البحر، ولكن قررت أن أكون النقطة البيضاء في هذه الصفحة مهما اسودت في وجهي ومع ذلك لم أجد سلة قمامة واحدة على مسافة تزيد على الكيلومتر بطول الكورنيش.
تخيلتني سائحاً أجنبياً يسال أحد المارة عن مكان سلة فينتزع منه الرجل كوز الذرة ليلقيها على الأرض أمامه صارخاً في وجه السائح بإنجليزية ركيكة "ايجبت إز ابيج باسكت"، وجدت أخيراً سلة بداخل أحد المقاهي؛ حيث ودعت كوزي الحبيبة لتستتر بأكياس الشيبسي.
رأيت رسماً قبيحاً على السور تبينت فيه عبارة "لا للتحرش"، ويبدو أن قباحة الرسمة لم تقنع الناس، فأصبح السور والمنطقة المحيطة به بالكامل ممتلئة بالتحرش بجميع أنواعه.
حاولت التركيز على صوت الأمواج التي ترتفع في الشتاء لتذيق جدران المباني المطلة على البحر بملوحتها المفعم بها الرياح، وكأنهما في علاقة تجارية تحرك فيها الرياح المياه مقابل جرع من الملح ومع مرور السنوات تساقط الطلاء الذي تتنافس في الإعلان عنه الشركات، لا بد أن الإسكندر الأكبر خلال بنائه للإسكندرية لم يستخدم تلك البويات الرخيصة.
ولكن هل يبنيها الإسكندر الأكبر إذا علم أن أحمد وسهام سيقومان برسم قلب أحمر كبير على كل ما هو أثري بالمدينة التي احتكت بمختلف الحضارات العريقة؟ هل يبنيها إذا حضر اجتماع مجلس الوزراء فيجدهم يشتكون بعدم مجيء السياح وتجد مستشاريهم يلهثون باقتراح بناء المزيد من الفنادق أو الكازينوهات بشرم الشيخ أو الغردقة، في تجاهل تام للإسكندرية والأقصر وأسوان وغيرها من الأماكن حتى المناطق الأثرية بوسط البلد وقلب القاهرة لم تشفع لها العاصمة لتنجو من الإهمال.
قد لا تستطيع فنادقنا منافسة ما تملكه دبي أو قطر من رفاهية للسياح، ولكن مصر تملك ما لا يملكه أي من الدول العربية مجمعة، ومع ذلك هل من مستمع لصرخات هذا الألماس المغطى بالغبار المنتظر لمن يزيحه عنه، معلناً عودة رونقه للعالم أجمع؟
لم يكذب أدباؤنا العظام في وصف الإسكندرية، ولا كذب آباؤنا وأجدادنا في وصف متعتهم بالمصايف القديمة، وإنما تبددت تلك المتع والأوصاف مع تبدد اهتمام الدولة بتلك المناطق الاستراتيجية بالنسبة للسياحة، ومع تبدد تحضر الشعب المصري، ولكن الحضارة باقية، ولو تبدد التحضر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.