"مؤلم هو العيش في حياة لا تشبه الحياة، ومع ذلك، فنحن مرغَمون على التعايش؛ لنستطيع العيش".
– في ذكرى الميلاد، وجدتني أدلل هذا اليوم، وأغنّي له مع الأطرش هذه الكلمات، بصوتي النشاز بكل عنفوان الصبا، ولست آبهاً إن أزعجت مَن حولي، ساعتها تخيلت لوهلة أني أرقص أمام العالم، الذي تخلّى عن جبروته وقسوته وحياته، وسوَّى الصفوف خشوعاً لقدسية لحظة، أرقص فيها عارياً كالإنسان الأول، في مزيج من الحب والحلم، والرقص على أنغام الجنون الطفولي، وأهتف ملء حنجرتي وبكل قوة صوتي:
عدت يا يوم مولدي ** عدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي ** وغزا الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي ** كنت يوماً بلا غدِ
رأيتني في هول اللحظة أسير بخطى مترنّحة، ولا أدري هل أسكرتني الذكريات؟ أم غيبت عقلي الوقائع والفجائع؟ أم أثقلتني حكايتي الغريبة جداً، التي قلبتني على محماسة التجارب، وسحقتني في "مهراز" الخيبات.. رئتاي لا تجدان ما يكفيهما في هذه المدن الكئيبة؛ حيث الهواء مستهلك، والأفكار مبتورة، والسراب يملأ جنباتها الضيقة كبُيوت الدخلاء.
سأبدأ من التفاصيل الصغيرة، من مهد الأبجدية الأولى في تاريخ البوح، من ذلك الزمن غير البعيد، فقط هي رحلة، عشرون حولاً وخمس سنوات بلياليها وأيامها، سيراً على طريق العمر ما تفصلني عنه، ورغم أني عشت أيامها التي تبلغ ألفها التاسعة وتزيد بمائة وخمسة وعشرين يوماً، بالتمام والحزن، فإنني ما زلت أجهل هل كنت في ذلك اليوم، الذي لا يشبه اليوم، أولد أم أموت؟ هل كنت أدخل الدنيا، أم ألجُ التابوت؟! هل كنت أعرف سيمفونية الرفض صراخاً، أم كانت تلك الصرخات المدوية عبثاً كغيرها من الصراخ، الخواء من أي معنى؟
كل ما أعرفه أني كحال بني الكثيب، وُلدت بين رعاة الوبر وكأس شاي معتق، بين دراعة فضفاضة وملحفة مشرعة.. بين سبحات منفرطة، وقصائد قريض مريض بمجد السيف اليماني، وكتب صفراء عبث بها الاهتراء، تفرض على الصبية الزواج دون رضاها.
رجع صدى الأيام الخوالي في تاريخ أعوج من منجل فلاح، ولدت بالصدفة، في زمن رمت بنا فيه صروف النوى بعيداً عن مضارب القبيلة، لكن صروف النوى لم تبعدنا عن القبيلة، وذلك ليس بالصدفة.. نعم، وُلدت بين كل هذا وذلك.
ترجلت في ليلة غراء عن صهوة رحم أمي، وأنا مسلوب الإرادة، ترجَّلت في الشهر السابع من سنة كان مخاضها أليماً على الوطن، أكثر من ألم مخاض الوالدة، السنة الأولى بعد العام التسعين من القرن العشرين، عام وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وقدوم مخيمات المعمرين.
في ذلك الصيف ابتكرني، تدوينة حنظلية الأبعاد، نسمة غازلت جدائل أمي في الركعة التاسعة بعد العشرين بمحراب، في الصيف أطلقت العنان لحواسي الخمس في فضاء الكثيب الكئيب، الذي سطرت الحقف إلياذة العدم الحالكة على محياه الحنطي المخملي، سطرتها بشعر بكر وقصائد ثيب، نقشتها على أساريره بمور السوافي، وُلدت في السنة التي غسلت شمس التحرير يديها منا، وأسلم إخوة الإبل رمتها لكل لص ودجال وقواد، أتوا إلى هنا من غابات جحيم دانتي، أسقطونا إلى أعلى قمة المقت، وقاع الميوعة (الذين أصبح المأكل والمشرب، والعرق، طمث النساء وبول الرجال) في سقر الحارة الأورفيوسة، وبكرم حاتمي أهدونا قلق المعري وعطش الحسين، باعوا لنا حياتنا بالتقسيط المريح، الوجد بدرهم، والوجود بدرهمين.
فقهاء البغي حللوا قتلنا بنصّ مدنس، لنا فسروه وأتقنوا استنباطه، قلنا لهم اقرأوا التاريخ بحياد، قرأوه بخيانة وأعادوا أخطاءه وأغلاطه، يحكون لأبنائهم أمجاد القبيلة وثاراتها، ويسرقون باسمها ثرواتها، لم يتجشم أي مخنث منهم عناء حفر الذاكرة، وترميمها ببلسم الحب والتآخي.
يسلبون من الشيب رشماته، من الدم كرياته، من الرمل ذراته، من الماء رونقه ومن البحر زرقته، من الليل دياجيره، من النور لمعانه، ومن الشمس والقمر ضفائرهما الذهبية والفضية، ومن الرضيع يسرقون القماط.
يا كثيبي حظي منك كآبة، لا يستطيع متسقط إسقاطها، ولا متسخط إسخاطها، جد بنا العبث واستبد، فلا مستجير ولا مستجار.
شكراً لهم مسامحة ديني للجلاد بلا إذني، شكراً لهم تجديدهم لسياط تفننت في رسم خارطة الأوجاع على تضاريس جسمي، شكراً للكتبة الكذبة بحجم الأبجدية كلها، شكراً لهم كتابة شهادة الزور بحدقات أخيراتهم الذميمة، فقد استحال الشرف عندهم إلى شرفة تطل على مراحيض السلطة، وجيوب الأمراء، هنيئاً لهم عباءة السامري، يروون بلسانه ما في الكتاب من حديث مفترى، وقد خاب مَن حمل ظلماً، هنيئاً لهم وعد الدجال جنته، وعد الدجال جهنم لمَن آمنوا به.
"تموز" أيها الشهر السرياني الحزين، ورثتني غصباً صفاتك، ورثتني المروج والمراثي، ورثتني المناحة والعزاء، ورثتني الحزن والتمرد وتقلبّاتك الحزينة.
بلسان عمر الراجي، أطلبك راجياً، أن توصل ما في البيت من رسائل:
قل للأحبة يا تموزَ معذرةً
لو أدركُواْ حجمَ ما في خافقي عذَرُوا
– وفي تلك الليلة، وفي صفاء ذهني لا متناهي الحدود، سأبوح لكم سكان هذا الفضاء القزحي بما يزحم به قلب أبى الصمت.. هناك قلب ينبض بين أضلعي، يضخ في العروق دماً يجري بعشق خبخابة، صافية كدمعة يتيم، ونقية كروح الأنبياء، وغريبة الصفات كالتقات.. شعلة تمرد على دياجير الطواطم، كرصاص فدائي مراهق، ومندفعة ككاميكاز في العشرين من عمره.
نعم، في القلب خبخابة، عرفتها سراج ضوء منير، انتصب أفق أفقي، قزحي الألوان، ذات منفى صقيعي القسمات.. متدثرة بلون الثرى، مضمخة بعنفوان الإنسان، الذي يبحث عن الإنسان في الإنسان.
نعم، ثمة خبخابة مجنونة متبتلة في البطين الأيمن حباً، وفي الأيسر عشقاً، وفي قمة القلب، متكئة في إغفاءة على أضمومة الهوى، كصوفي في قمة صفائه.
نعم، هناك حب في القلب المثخن بالجراح، وهي بلسمها، حولته بسحر أنثوي لا يقاوم، من مضخة صدئة، إلى قلب عاشق بامتياز.
نعم، ثمة حب يا خبخابة التيه والوله، والجنون الحلو، والهبل المشتهى، حب أخاف أن تشوهه همجيتي الأبجدية، وكل آليات كتابة البوح، التي لا تكتفي بإحراق الأوراق فقط؛ بل تحرق الروح معها، كي تحيا الحكايات، إنها معادلة الموت من أجل الحياة، يموت هذا ليحيا ذلك..
وهناك وجه طفولي، لجسد عجوز، نحيل منخور، عن آخره حد السحق.. تفنن الدهر في جلده بالنار والجليد معاً، مخلفاً جراحاً لا تندمل، بل يتجدد ألمها كلما غازلتها الرياح.. فخرجت فيه الخبخابة، كما تخرج زهرة التوليب من أكمتها، والتي كانت بالتأكيد النقية بينهن، كي لا أفند أنه لم تسبقها آخر.. لكن كلهن مجموعات بكل أنوثتهن، لم يستطِعن أن يوقدن شعلة قبس، في حرفي الذي كانت الخبخابة وهجه.
أحبك أهواك أعشقك، ولا أريد منك شيئاً غير محبتي سيدتي.. يا خبخابة التيه والوله.
أستوقفك هنيهة يا لهفة الشوق، ورعشة الحب البكر، في تجاويف الفؤاد الصامت إلى حين.. فقفي لحظة يا عمري الهارب، لأقول لك بكل حواسي، في ليلة ميلاد لا يشبه الميلاد:
إنه كما تخرج زهرة اللوتس من أكمتها في أماكن غير متوقعة، نبتت زهرة حبك خبخابتي في قلبي القاحل.
ألم أقل لك ذات ليلة بوح، رُصعت سماؤها بماسات نجوم، تطوقت بإكليل الضوء، إني وائد للحب لست بآيب إليه، وليس لي إلاكِ؟!
ألم أفتل لك من صبايا الدنيا عقدَ وَلَهٍ، طوّقت به جيدك الأفروديتي الصغير، ومن العذارى أساورة شوق زيَّنت معصم يدك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.