كانت تتأرجح أمام البيت وتطلع إلى ألوان الغروب الآفل، بينما نسائم شهر تجوب المساء مسرعة لتؤذن برحيل الصيف، وتعلن بطريقة جنائزية عن حلول فصل جديد يحمل في طياته الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تتوه في خضم ضجيج الأحداث المتلاحقة، وكانت شجرة العنب إلى جانبها تذرف أوراقها الجافة بهمسٍ خفيفٍ يسبغ على نفسها مشاعر مبهمة، شاهدت غرباء يدخلون البيت، قطع صوت والدها يستقبلهم بحفاوة ويرحب بقدومهم، سيمفونية الصمت التي تُعزف حولها، أطنب في إكرامهم، ومع قرع الملاعق لأكواب الشاي، شعرت بانقباض غريب لم تدرِ كنهه، نامت تلك الليلة واستيقظت مرات عدة على الحلم ذاته…
امتدت يد ضخمة تنتزعها من مقعدها الدراسي حطمت اللوحات الجميلة التي رسمتها وزينت بها جدران غرفها، وقذفت بها في بئر عميقة، وهي التي لا تعرف السباحة، أخذت تحرك يديها ورجليها بقوة لتبقى على سطح الماء… وعندما تصاب بالإنهاك، تسكن قليلاً فتغوص للأسفل، وقبل أن تغرق تعود للحركة ذاتها مرة أخرى، لم تستسلم، ولكنها تكاد تموت من فرط التعب والإعياء… حينها تستيقظ، ترطب حلقها بقليلٍ من الماء، ولكن تجد رأسها يكاد ينفلق نصفين بين فكي صداعٍ ضارٍ، وتجد نفسها معلقة بين النوم والأرق مثل محمومة تسير في نومها.
بعد شهرين وجدت نفسها ترتحل لبيت جديد برفقة رجل لا تكاد تعرفه، عارية من كتبها ودفاترها وفرشاتها وألوانها، ارتجفت إلى جانبه كسعفة جافة، وشعرت بتخبط في مشاعرها تجاهه، فهي تخجل من النظر في عينيه، ولا تجد في نفسها الجرأة الكافية للحديث إليه، شجاعتها تذوب داخلها كما شمعة تحت لهيب النار المشتعلة في جوفها، كانت حينها في الرابعة عشرة من عمرها، طفلة لا تدرك معنى الحياة وتحدياتها ومسؤولياتها الكبيرة التي تقصم ظهر المرأة القوية الناضجة، فكيف بصغيرة مثلها؟ وخصوصاً إذا فُرض عليها أن تعتني بأسرة زوجها وتلبي جميع احتياجاتهم المنزلية، غرقت في المسؤوليات منذ اليوم الأول لحياتها الجديدة. ففي الأربعة عشر عاماً الماضية تعلمت من أمها أن تكون خادمة طيِّعة، تصبر على كم العمل المنزلي الهائل الملقى على عاتقها وتقوم بكل المهام المنوطة بها دون تذمر أو شكوى كثور ساقية يدور ويدور دون أن يشتكي العمل المضني، وتقف صامتة كحجر أصم أمام الإهانات المستمرة التي توجه إليها… لم تتعلم في أحضان أسرتها أن لها حقوقاً يجب أن تطالب بها وتحصل عليها، أو أن لها مشاعر واحتياجات ورغبات من حقها أن تلبيها.
تعمل منذ الصباح الباكر، وتنتهي مهماتها اليومية مع انتهاء طقوس العَشاء عندما يكون الليل قد أسدل ستاره الحالك على الكون وعلى النفوس المعذبة مثلها، وقتها فقط تسمح لها حماتها بأن تضم إليها آلامها التي تتوزع بين مفاصل ركبتيها وكتفيها ورقبتها وأسفل ظهرها وتجر ساقيها لغرفتها الخاصة لتفعل داخلها ما تشاء… ولكن أنَّى يكون لها ذلك وهي المنهكة حتى الرمق الأخير والتي لا تقوى على عمل أي شيء إضافي أكثر من الاستلقاء في الفراش والنوم حتى أذان فجر اليوم التالي؟
داخل عائلة زوجها عاشت حياة شديدة القسوة، لم تجد من يعطف عليها ويدعمها أو يدافع عنها أمام والدة زوجها المتسلطة، حتى زوجها لم يكن يجرؤ على ذلك، كانت تشاهد نظرات العطف والحنو فقط في عيون والد زوجها، فهو الوحيد الذي كان يُسمعها الكلام الطيب الذي يعينها على التحمل ويبث الأمل في نفسها. كانت تتمنى لو أنها تستطيع أن تستميل قلب زوجها ناحيتها، ولكن تضافرت الظروف ضدها، فبدءاً من سيطرة حماتها على حياتها، وانتقالاً لصراع الخجل الذي يطبق قبضته عليها، ومروراً بالخبرة السلبية التي اكتسبتها في بيت أهلها والتي تفرض نفسها عليها دوماً وتملي عليها تعليماتها دون كلل أو ملل، فمثلاً، الحديث عن المشاعر ممنوع وشيء لا يليق بالبنت المحترمة، كما أن وقوف البنت أمام المرآة واهتمامها بنفسها مرفوض ولا يليق بها أن تفعله… لتنعكس تلك القناعات على حياتها الزوجية، فيغدو لسانها عاجزاً عن البوح بأية مشاعر رقيقة تقوي الروابط العاطفية وتبث الحب والانتعاش داخل العلاقة الزوجية، وانتهاءً بكونها امرأة تهمل نفسها ومظهرها تماماً، ولا تفقه من حقوق الزوج إلا إرضاء والدته وإعداد الطعام اللذيذ وتجهيز البيت ليكون شديد النظافة واللمعان.
سنوات عشر مضت على زواجها، وجدت نفسها بعدهن كأنها كبرت ثلاثين سنة دفعة واحدة، ولا تدري إن كان السبب هو إهمالها لصحتها وتركيزها الانتباه على أطفالها الثلاثة الذين منَّ الله عليها بهم، إلى جانب المسؤوليات الأخرى الكثيرة والمتشعبة التي تثخنها جراحاً في معارك الحياة اليومية، فوجهها أمسى شاحباً يشي بضعفها، وهالات سود تحيط بعينيها وتبوح بإرهاقها الدائم، ويديها خشنتان تشتكيان انشغالاً دائماً وتعرضاً لمواد التنظيف، وشقوق سوداء نازفة تغزو قدميها تصرخ معلنة عن تحملها ما لا تطيق من العمل، ولثتها متورمة مؤلمة في معظم الوقت تبكي سوء التغذية. وطبعاً يمنع منعاً باتاً الشكوى من الألم، لأنها نوع من الدلال الزائد، واستدراراً للعطف ليس إلا، كما تقول حماتها!. تحاملت على نفسها كثيراً خلال تلك السنوات، وأخرست الأصوات التي تدعوها للتمرد وإعلان الثورة والعصيان على ما هي فيه من اضطهاد، وصبَّرت نفسها ومنَّتها بأيام جميلة تأتي لاحقاً، أما الآن، فيتحتم عليها إكمال حياتها تحت غطاء الستر الذي كانت تنصحها أمها به كلما اشتكت لها حالها الذي لا يسر صديقاً ولا عدواً. ولم تكن تتذكر أو تنتبه لحقيقة أن العمر والقوة والصحة والشباب تتسرب من ثقوب حياتها بسرعة خيالية، لا تستطيع استعادتها منها مرة أخرى.
تأملت واقعها المر، فإذا بها تدور وسط دوامةٍ وحدها، زوجها ينأى عنها إلى أقصى الطرف، صامت هو طوال الوقت، لا يشعر بوجودها، ولا تشعر بأن لها مكانة في نفسه، بل تجد أن وجودها إلى جانبه يساوي عدمه، فهو لا يدعمها، ولا يدافع عن حقوقها المهدورة في بيت أهله… شعرت وكأنها مجرد خادمة ماهرة في بيته لا غنى له أو لباقي أسرته عن خدماتها… تكلمه وتفتح مواضيع مختلفة معه، فيطلب منها أن تنتظر حتى ينتهي من قراءة كتابه. تكبت أحزانها وآلامها داخل نفسها، وفي الوقت ذاته تطلق العنان لنفسها تجوب آفاق الخيال، وترخي الحبل الذي يقيد الطفلة اللعوب داخلها، فتنطلق ترسم لوحاتها الجميلة المفعمة بالفرح والألوان الزاهية، وتعود لتعلقها على جدران غرفتها التي تكتظ بمثيلاتها… وفي كل مرة يغلبها النوم قبل أن ينتهي زوجها مما هو فيه.
وفي إحدى الليالي البكماء، حيث تجد الحقيقة طريقها للوجود، علمت أن في حياة زوجها امرأة أخرى، وأنه على وشك الزواج منها، أدركت حينها أن للخيبة أسماء كثيرة، وما هي وشخصيتها والطريقة التي تعيش بها إلا إحداها، حاولت استجماع شجاعتها المنصهرة عساها تستطيع الاعتراض… ولكن الكلمات أبت أن تطاوعها، كحصان بري جامح استعصى ترويضه… فاكتفت كعادتها بالصمت الكئيب والعيون الدامعة.
هامت في ثنايا ذاكرتها تفتش عن شيء ضاع منها قبل سنوات عشر، لتأنس به عساه يبث الحياة في روحها، استطاعت العثور على أرجوحتها فهرعت إليها، وألقت عليها نفسها المشبعة بآلام الهزيمة النكراء التي منيت بها، راحت تهذي، تهلوس، تتلاشى، وتمقت كل شيء في الوقت ذاته… بدت لها جميع الخيارات تفضي للمجهول ذاته، جلست ترقب ولادة الفجر، في طريقه لشق ظلام الليل وفرض نوره على الكون رغم اشتداد العتمة، أدركت حينها أنها هي من فرطت بحريتها وارتضت لنفسها حياة العبيد طوال السنوات الماضية، وهانت عليها نفسها، فهانت على الآخرين… فقررت الثورة على نفسها، وعلى الاستعباد الذي قضم زهرة شبابها وسعادتها. لملمت نفسها وحاجاتها البسيطة وضمت صغارها إليها، وغادرت البيت الذي حُكم عليها فيه أن تدفن وهي في عداد الأحياء، هجرت كل ما يربطها بهذه الحقبة البائسة من حياتها محاولة الهرب خارج إطار الوقت، عادت إلى مهد طفولتها تفتح صفحة جديدة في حياتها، أخذت تحيك الملابس نهاراً، وتسهر مع كتبها وفرشاتها وألوانها ليلاً، أنهت ما فاتها في مدرستها، اجتازت الثانوية العامة بنجاح، التحقت بكلية الفنون، أخذت لوحاتها الزيتية التي تحكي عن الحرية والكرامة تزين جدران البلدة التي تسكنها، والتي كانت توقعها باسم "فجر جديد". بزغ فجرها، وأشرقت شمسها وتلألأت، فأصبحت معارضها الفنية تستقطب عشاق الفن الراقي.
وفي ذات مساء جلست تكتب في دفتر مذكراتها: "عندما أهملت نفسي ولم أعطها ما تستحق في الوقت الذي أعطيت فيه الناس بدون مقابل، تجاهلني الجميع وتجاهلوا احتياجاتي وكأنني لست بشراً مثلهم من جسد وروح وعواطف وعقل، وعندما انتبهت لنفسي، واعتنيت بها، فثقفتها وطورتها وأبيت إلا أن أحفظ لها كرامتها، وأطلقتها في عالم الإبداع، أصبح الجميع يخطبون ودي ويتقربون إليَّ… وتعلمت من ذلك: أنك أنت من يرسم صورتك في أذهان الآخرين ونفوسهم، وأنت من تفرض عليهم الطريقة التي يعاملونك بها".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.