أتكتب الأساطير سير موراكامي؟
كان هذا سؤال طرحه القراء على الروائي الياباني هاروكي موراكامي عبر موقعه الإلكتروني، فأجاب عن هذا السؤال بقوله إن جميع الأساطير المعروفة في العالم تتضمن العديد من العناصر المشتركة، وإذا تأملنا فيما هو أبعد وأعمق من اللغة والثقافة والزمن، في جذور وعينا، سنكتشف أننا جميعاً مترابطون.
"حين تشرع في كتابة رواية، يجب ألا تبدأ وفقاً لخطة. لكن تفاعل، كما لو أنك تراقب حيواناً في الغابة، تثبت عينيك عليه، وتتابعه، وتتحرك وفقاً لتحركاته. لو اعتمدت تلك الطريقة فإن الرواية ستصبح حتماً عملاً عفوياً. وأضاف أن الحركة في مثل تلك الروايات مثل التحديق في حركة مخلوق في البرية، مشابهة للغاية للحركة داخل الأساطير، فالأساطير هي العقل الجمعي للبشر مصوغاً في هيكل درامي،.
والروايات التي أكتبها تمثل لا وعيي الخاص، الذي لو تتبعته نحو مستويات عميقة جداً، سينتهي الأمر بالتداخل مع اللاوعي الجمعي، ليست الأساطير والروايات الشيء نفسه، لكن هناك الكثير من الأجزاء التي تتداخل فيها الحركة".
يعد هاروكي موراكامي أشهر الروائيين اليابانيين المعاصرين، صاحب أسلوب يميزه عن غيره من الروائيين اليابانيين، خيال غير محدود، وتفاصيل شديدة الدقة، وعميقة للغاية، تأثره بالأدبيات الغربية، خاصة أعمال ديستوفيسكي وتولستوي وبلزاك، ما جعله يصنع خلطة سحرية مزج فيها اللغة اليابانية والثقافة الغربية المعاصرة، ذلك لأنه يكتب بلغة حديثة وبسيطة، فيكشف حياة اليابان المعاصرة، حكايات تدور حولنا، تنتمي إلى العالم الذي نعيشه اليوم، قريبة منا، كما لو أننا نعيش مع أبطالها، تدخل في عالمها فلا تستطيع أن تتركها إلى أن تنتهي من قراءتها فتبقى عالقة في الذهن.
حيث يمزج موراكامي في أعماله الروائية بين العالم الواقعي الخشن الفظ والعالم الخيالي الساحر الساخر، وبين روح وجوهر الثقافة اليابانية الفريدة وبين الثقافة الغربية بكل أدبها وثقافتها وموسيقاها وإيقاعها اللاهث الذي يبدو أنه يتناقض ظاهرياً مع الرتابة اليابانية الراسخة والهدوء والاستبطان الذي يميز الشخصية اليابانية… كما أن عنوان الرواية "الغابة النرويجية" من اسم لأغنية شهيرة لفرقة "البيتلز"، يجسد ولعه بكل أشكال الحياة الإبداعية، ومدى تأثره بالأدب الأوروبي الغربي.
يقدم موراكامي في "الغابة النرويجية" اليابان بطريقة تجعل كل الأشياء بسيطة وشفافة وبعيدة عن التعقيدات، مزيج من رصد العلاقات الاجتماعية من الموسيقى، إلى الصداقة، إلى الحب والموت، حتى يبدو أن كل موقف، وكل كلمة، في الرواية، واضحاً، ما يجعل الكتابة عن الرواية صعباً من هذه الملاحظة، تسيطر على أبطال رواياته شخصيات أولئك الوجوديين القادرين على استنباط المتعة في كل جوانب الحياة من موسيقى وأفلام وعلاقات عابرة وترحال بين مدن العالم، ولكنهم لا يستطيعون الفرح بذات القدر من الجمال، لإيمانهم العميق بعدم جدوى هذا الفرح الذي ليس له معنى، في تصوير سردي لواحد من أوضح معاني "العدمية".
الرواية تبدأ هادئة، يروي فيها قصة شاب جامعي يموت صديقه فيعيش الموت كمفصل من مفاصل الحياة وليس منفصلاً عنها، فيعود إلى الماضي، إلى فترة دراساته الجامعية في نهاية الستينات وبداية السبعينات، يعيد تأمل تجربته كلها بعد أن انتحر أحد أقرب زملائه بدون أي مقدمات، إنه تورو واتانابي الذي تروى الرواية على لسانه، في السابعة والثلاثين من عمره، لقاءه بصديقه كيزوكي الذي انتحر، وصديقة كيزوكي ناوكو التي تصبح حبيبته ويكون لها تأثير كبير على مجريات حياته.
كما نتعرف على شاب شديد الاعتماد على نفسه روحياً ورحلته في معرفة العالم عبر قراءاته الأدبية الغربية الطابع، فاختصاصه الجامعي هو الأدب، يقيم علاقة ملتزمة مع دراسته، يعيش فيما يشبه العزلة، يمارس التأمل والمشي، يلتقي بأفراد استثنائيين مثل الشاب الفولاذي ناغاساوا والفتاة ميدوري، لقاءات تحدث بالصدفة أو ربما بإراداتهم. يعمل واتانابي بالساعة في أعمال متعددة ليؤمن مصروفه، ونجول معه ومع أصدقائه القلائل عدداً لا يحصى من الحانات والمطاعم، ونستمع إلى وصف تفصيلي للطعام والشراب والملبس..
المظهر الغربي للحياة اليابانية في الرواية، لا يحمل مفاجأة بحد ذاته، لكن المفاجأة في الرواية هي تلك النزعات المتلاطمة في نفوس أبطالها نحو تأكيد فرديتهم والبحث عن الخلاص الذاتي، هذا النزوع الذي يصطدم بتقاليد اجتماعية عريقة مهما بلغت من صرامتها إلا أنها آخذة بالتفكك، سلوكيات مظلمة وأفكار متشابكة تمزج بين الغموض والمجهول وغير المفسر وبين البحث عن قيمة أخلاقية مطلقة، هكذا يرد هاروكي موراكامي بطريقة غير مباشرة، على الذين رأوا فيه الابن الضال الخارج عن الخصوصية التي تميز الكتاب اليابانيين..
ذلك لأنه يكتب روايات عن عادية الحياة المعاصرة، ويكشف القلق الذي يحيط بالإنسان المعاصر. ملامح شخصياته لا تتغير كثيراً من عمل إلى آخر. هي غالباً كائنات عادية تعاني الوحدة والخواء الداخلي، وتجد ملاذاً في الطبخ أو سماع الموسيقى. وربما أكثر ما يميزه هو طريقة تصويره لمجتمع يغرق في الاستهلاك هرباً من فراغه الداخلي، الأحلام المجهضة والتطبيع مع الزمن الاستهلاكي، ليصبح المجتمع الياباني الأصيل مجرد تابع ومقلد للغرب، لا يعرف أين يتجه ببوصلته بل ويغرق في مستنقع المجتمعات التي أنتجتها الرأسمالية الغربية في أسوأ صورها، لتكون النتيجة التي تعصف بوجوده فعلاً، في هذا التداخل، أنه أضاع الحدود بين العوالم. ولم يعد يدري أين يوجد وفي أي منطقة يتحرك، وسرعان ما يصطدم بهشاشة الواقع الفعلي، ويصدم قراءه بتداخل الحدود بين السرد والواقع.
هناك شيء افتقدته في الرواية سأعبر عنه بصيغة سؤال: هل ما قرأته أدب ياباني؟ ولماذا كل الشخصيات تعيش أسلوباً غربياً في الحياة؟ "البار، الموسيقى، فرق موسيقية غربية، الرقص، الحب، وحتى الولع بالروايات العظيمة، التي هي روايات غربية في النهاية، فهل من الضروري أن يكون أبطال الرواية من عشاق فن الرواية؟" إن كل هؤلاء الذي تحركوا في فضاء السرد، هم بصورةٍ أو أخرى، ظلال ممتدة لأهواء الكاتب نفسه، لم يبذل مجهوداً ليخلق لديهم اهتمامات أو فروقات أو تمايزات مختلفة.
يبدو أن موراكامي الذي يعد من أبرز كتاب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد تقبل الثقافة الغربية كلها قلباً وقالباً، ما انعكس بشكل واضح على أعماله
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.