"الليل للست أم كلثوم"، هذه الجملة كفيلة لأتأكد كم تغيرتُ كثيراً في أشهر قليلة. من يعرفني منذ سنوات – أو على الأقل منذ سنة كاملة من الآن – سيعلم أنني لا أحبذ من كلاسيكيات الموسيقى المصرية إلا ما تعلق بالعندليب، لم أُصغِ من قبل أبداً لمن ملأوا العالم والعقل العربي ضجيجاً.
أومن بأن كل الأصوات والصور والأسماء التي شهدتها سنوات الستينيات والخمسينيات وقيل بعدها، تطورت في السبعينيات، كانت السراب الذي تبعناه وأضعنا في سبيله جزءاً منا وأسقطنا في طريقه حقنا وحقبات طويلة من تاريخنا، كانت أطول من تلك التي حاول الموسيقيون تجميعها في أوبريت واحد، سلبنا مستقبلاً نحارب في سبيله اليوم دون أدنى مقاومة.
ولم أحب أم كلثوم تلك على وجه الخصوص.
ذات ليلة يائسة أحببتها فجأة.. كنت قد علقت عيني في السقف وشبكت أناملي بين خصل شعري المجعد دائماً. كنت أتساءل جدياً كم حياة نعيش؟ أصحيح أننا نعيش حياة واحدة لا غير؟! أيجب أن نحياها كما نريد بكل ما على الأرض من جنون؟
أخبرني صديق ذات مساء بأننا نعيش اثنتين في الحقيقة: واحدة لنا وأخرى للناس، الأولى لنا والثانية علينا، وغالباً ما يختلط الأمر ونعيش حياة واحدة مختلطة متسلطة مزاجية صعبة المراس.
الست كانت على حق ذاك المساء وربما لهذا أحببتها. الست قالت: "سوف تلهو بنا الحياة وتسخر فتعال أحبك الآن أكثر"، وجدتي تقول دائماً: "الباي باي حتى في شكارة"، وهو مثل تونسي يعني أن الإنسان يظل عزيزاً مهما ضاقت طرق الحياة.
نمت فجأة.
الآن أعيد ترتيب عناصر ذاك المساء في هذا الليل الطويل، أضع "الست" أولاً، أرفع شعري المموج الى الوراء وأعلق عيني في السقف.. مجدداً. الحياة تلهو بنا دائماً. متى كانت الحياة لطيفة مع من يحياها كما يريد؟ متى أعارتنا الحياة أياماً متوازنة متناسقة؟ هكذا هي تتحايل فنتمايل. تأخذ نصيبنا الكبير من الفرح ثم تعيد توزيعه علينا قطعاً صغيرة حسب الطلب، طلب إن صار مستجاباً صار مستراباً.
صديقي كان على حق! نحن نحيى حياتين اثنتين. متى وهبتنا فرصة الاختيار حتى؟ نحن ننسى الحياة التي نريد في تلك التي يراها الآخرون فينا. أنا نسيت وجهي الذي اعتدته في المرآة. ها أنا أرى انعكاسي في مرآة الحائط المقابل. هذا السواد الذي يلفّ عيني أهو من علامات الانصهار؟!
أتراني أذوب في الحياة التي لم أختار؟ لازلت مرابطة. لازلت عنيدة وهذا أمر جيد. صديقاتي اللاتي يحطن بي يعلمن هذا جيداً.. وأصدقائي أيضاً: يعلمون أني أحب شعري مموجاً لا غير أحبه طليقاً دائماً تحت أي ظرف. إن كان "مشبشب" أو كـ"غولة شانشو" لا يعنيني إطلاقاً. لا – وربما لن – أرتدي الفساتين. لا أحب حقائب اليد الكبيرة، لا أجيد الرقص. ولكنهم يصرون. الآخرون هم الجحيم. سعيرهم لفح وجهي حتى تشوّه. أتحسسه بأصابعي الخمسة التي ترتجف كلما اصطدمت بعيني وشفتاي. تغيرتُ. انزلقتُ. أصبحت شبه الفتاة التي وضعوا مقاييسها لي حتى اجتاحتني رويداً رويداً.
يقولون إني ضعيفة جداً وهذا لم يعد يعنيني حقاً! ذاك الصبي الصغير الذي وضع "المشموم" بين أناملي ذات ليلة قائلاً: نوّرها! لا يشبه الآخرين. كان ينظر في عيني ويرجو ألا أكون قاسية، أنا أيضاً، مثلهم. الابتسامة التي تصر على براءته نصرته وهزمتني وأعترف بأني ضعيفة.. ضعيفة جداً أمام فرحهم البريء.
على فكرة نحن ننهزم على مرأى العالم ومسمعه كل يوم برضانا أو بعدمه، فلننهزم مرة وحيدة في زاوية صغيرة ونستسلم لابتسامة صغيرة..من قال إن كل هزيمة عار؟ألم يُقل إن وحدهم الأقوياء يتحملون الهزائم؟
لا أريد لذاك السعير أن يلفح روحي أيضاً. فليحرق وجهي أو اسمي وليكن برداً وسلاماً بين جنبي.
لازلت هنا. لازلنا جميعاً هنا. نحن شباب هذه المنطقة التي أكلتها النكبات. نحن أبناء المخيمات والصراعات والديكتاتوريات والعادات. لازلنا هنا أحراراً. نرى أنفسنا كما نريد أن نكون. نسير في هذا الكون في كل الطرق المؤدية إلى أحلامنا. نعصر من آلامنا أملاً جديداً نواجه به كل يوم جديد.
لازلت هنا واحدة من آلاف الشباب في مدينتي نختنق كل يوم برائحة الموت بين نخلتين وبحر، نصرخ في وجه قابس "ما نموتش!".. لازلت هنا واحدة من ملايين الشباب الحالمين الذين يواجهون كل يوم باب مكتب جديد يغلق في وجه مشاريعهم.. لازلت هنا واحدة من ملايين الشباب الأحياء الذين ينفخون الفن في نفوس الأجيال القادمة.
لازلت هنا، إنساناً، ولأن "الباي باي حتى في شكارة" أرفع عيني إلى السماء وأقول كملايين أطفال العالم الحالمين: سأحجز لنجمتي مكاناً في هذا الظلام الذي يلفّ الكون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.