عند سقوط العاصمة صنعاء قبل عامين من الآن بيد مسلحي الحوثي، كان الباحث جمال المليكي، أحد اليمنيين الذين هالهم ما حدث، لقد مثل له ذلك "بداية لسقوط اليمن برمته"؛ يقول المليكي. كانت ثورة فبراير بالنسبة له؛ حلماً، شعر أنه اختطف منه، لكن الشيء الذي جعله يشعر بمرارة الهزيمة؛ تعمد الجميع إخفاء الحقيقة. ومن هنا بدأت الفكرة، لقد قرر خوض معركة المعلومة، علّه "يوثق جزءاً من الحقيقة التي أريد لها أن تختفي".
في طريقه إلى "خيوط اللعبة"، رصد جمال المليكي تفاصيل مرعبة، لم يظهر منها في فلمه إلا نسبة بسيطة مما توصل إليه "كانت ظروف بعض الشهود وتخوف بعض المسؤولين –كما يقول- حاجزاً كبيراً أمام نشر كل شيء" لكن الفلم الذي لم يقل كل الحقيقة؛ في نظر بعض ناقديه، انتصر للحقيقة؛ في تقدير منتجه.
في هذا الحوار يتحدث المليكي عن تجربته الفنية المتعلقة بصناعة الأفلام الوثائقية، ويروي قصته مع أول فلم وثائقي عن الانقلاب في اليمن، يفصح فيها عن دوافعه لتأليف سيناريو الفلم والصعوبات التي رافقت إنتاجه، ويكشف للموقع عن تفاصيل لم تنشر في فيلم "خيوط اللعبة".
يؤكد المليكي أن الحوثي ليست مجرد جماعة محلية بل "مليشيا غازية", تحركت عسكرياً من أجل مشروع الإمامة، محذراً من خطوة تجاهل حل مشكلة اليمن، فهي لم تعد مشكلة تخص اليمنيين وحدهم بل قضية أمن قومي خليجي وعربي.
نص الحوار
– لو بدأنا بالحديث عن طريقك إلى "خيوط اللعبة"، أتحدث عن الفكرة، وليس عن إنتاجها، كيف وجدت طريقها إلى ذهنك؟
بدأت الفكرة كتفاعل مع لحظة تاريخية فارقة، فأنا كناشط إعلامي مُؤيد لفكرة الربيع العربي عموماً، ولثورة اليمن بشكل خاص، وجدت أن هناك ثغرة في التغطيّة الإعلامية للأحداث في اليمن؛ فتسارع الأحداث لم يسمح بالوقوف على تفاصيل هامّة، لا سيّما عقب بروز موجات الثورات المضادة للربيع العربي، فأحببت سدّ هذه الثغرة وأن أساهم ولو بجهد بسيط في توثيق جزء من الحقيقة على الأقلّ لتعرف الأجيال القادمة وتتعلّم مما حصل.
كنت أفكر دوماً كيف ستقرأ الأجيال هذه اللحظات الحاسمة؟ هل ننتظر المنتصر ليكتب لنا التاريخ؟ أم نبادر نحن لكتابته؟ هكذا تولّدت لدي فكرة فيلم "خيوط اللعبة".
– ما هي العوامل التي أنجحت هذه الفكرة في ذهنك؟
من أهمّ العوامل التي أنجحت الفكرة ـ في تقديري ـ هو وجودي في بيئة إعلاميّة، ومراقبتي لإيقاع التغطيّة الإعلامية لثورات الربيع منذ انطلاقها من خلال مشاركاتي في الكثير من المقابلات عبر قناة الجزيرة وغيرها من القنوات، جعلني أطلّع على طبيعة العمل الإعلامي التلفزيوني عن قرب. إضافة إلى ذلك، ألزمت نفسي برحلة تعلّم معرفي ومهاري، خضعت لتدريب طويل استمر عدة أشهر؛ حيث التحقت خلالها بدورات متخصصة في "صناعة الفيلم الوثائقي" تجاوز عدد ساعات التدريب فيها لما يربو عن 300 ساعة تدريبية.
ويمكنني القول أنني تحصلت على معارف ومهارات مهمّة في مجال صناعة الفيلم الوثائقي، وأنجزت خلال تحصيلي ثلاثة أفلام قصيرة، هي عبارة عن مشاريع تخرج. لقد كان تحدي التعلُّم والمعرفة في هذا المجال هو أول التحديات التي تجاوزتها.
ما هي أبرز المخاوف التي عشتها قبل تحويل الفكرة إلى قصة فنيّة تحكى للعالم؟
من أبرز المخاوف أو إذا صحّ التعبير، التحديات التي واجهتني في البداية، هي مدى إمكانية الحصول على وثائق وشهادت تعزز ما توصلت إليه في مرحلة البحث، لأن مرحلة البحث قد تقودك لبعض الحقائق لكن في عالم الأفلام الوثائقية، مالم تعزز هذه الحقائق بالوثائق والشهادات فالمؤكد أنه لا قيمة لها.
إذا ما ذهبنا لمرحلة كتابة سيناريو قصة "خيوط اللعبة"، هل كانت هذه أول تجربة لك في كتابة سيناريو سيكون فيلماً وثائقياً عن لحظة نادرة وأليمة في تاريخ بلدك؟ صف لنا شعورك وأنت تعيش هذه التجربة؟
بالفعل كانت هذه من أصعب المراحل في تنفيذ الفيلم بوصفه السيناريو الأول الذي أكتبه لفيلم. كان أمامي خيار أن يقوم صحفي آخر بكتابة النص، لكن بسبب متابعتي الدقيقة للأحداث التي سردها الفيلم ومعايشتي لها بألم، كان لدي تخوف أن تصبح الكتابة بعيدة عن الإحساس باللحظة، وكانت لدي رغبة جامحة لخوض محاولة كتابة النص لا سيّما أني قمت بعملية البحث وتتبع التفاصيل، مما جعلني أكثر قدرة على سرد القصة واستكناه الأحداث.
كما أني أردت استثمار هذه الفرصة للتعلّم ـ وبحمد لله ـ نجحت في خوض التجربة، وتمكنت من إنجاز السيناريو الأول. من المفارقات اللطيفة التي أفخر بها، أني في طفولتي، كنت عاشقاً للصوت الذي يؤدي دور (جدّ لينا) في مسلسل الأطفال "عدنان ولينا"، فكان قارئ النص الأول لي، هو ذات الشخص، الفنان سالم الجحوشي، الذي صبر كثيراً معي أثناء تسجيل التعليق الصوتي؛ فقد كنت كثير التعديل، فأضطر للتسجيل أكثر من مرة. ومن هنا أسجل له أسمى آيات الشكر والعرفان.
– تجربة إنتاج الفيلم بالتأكيد لها سيرة مختلفة يجب أن تحكى، ما هي العوائق التي واجهتك أثناء الإنتاج؟
الفيلم الوثائقي كما يعرّفه المختصون: هو (المعالجة الخلّاقة للواقع). هذه المعالجة تضعك أمام كثير من التحديات، وتجعلك أمام مسؤوليّة أخلاقيّة تفقدك لذة النوم أحياناً، خاصّةً عندما تكون القضية محل المعالجة،كالقضايا التي يمرّ بها اليمن اليوم.
وكما هو معروف أن السينما فن والاستقصاء عمل صحفي، الجمع بينهما يحتاج إلى مهارات متعددة، بقدر الصعوبة التي تكتنف هذا النوع من العمل، بقدر ما تكون المتعة مُضاعفة، ولذلك يعتبر هذا المجال منصة ثرية للتعلّم تحفزك على تجاوز العوائق.
– لكل فكرة أو قصة دوافع ما، ما هي دوافعك للقيام بإنتاج هذا الفيلم؟ لنبدأ الحديث عن الدافع الشخصي، إذا ما أخذنا بالاعتبار الصراع بين هذا الدافع وبين قول الحقيقة أياً كانت؟
من أبرز الدوافع التي جعلتني أقوم بإنتاج فيلم "خيوط اللعبة" هو، أنني كمواطن يمني أحْسَسْتُ بأنني هُزمت مرتين: مرةً عندما أُسقِطَ حلم الثورة، التي خرج من أجلها أنقى شباب اليمن، وأعني هنا ثورة الشباب السلميّة في 2011، والتي لم تكن تمثّل بالنسبة لي مجرد ثورة من أجل تغيير النظام فحسب، وإنما كانت ـ من وجهة نظري ـ مقدمة لتغيير اجتماعي أوسع، تلك اللحظة التاريخية لامست أشواق جيلي في الحرية والعدالة الاجتماعيّة. أما الهزيمة الثانية كانت يوم حُحبت عني المعلومة، حتى السلطة الشرعيّة لم تكن تكاشف المجتمع وقتها حول حقيقة تطورات الأوضاع.
ما زلت أتذكر بألم شديد، لحظة سقوط مدينة عمران التي كانت بمثابة بداية النهاية لسقوط اليمن برمته، خصوصاً بعد تصفية أحد أبرز جنرلات الجيش هناك، العميد حميد الغشيبي.لم تصدر الحكومة في حينها بياناً ولم تعلق على سقوط المدينة إلا بعد مرور أيام، وحتّى حينما فعلت ذلك، لم تكشف الحقيقة كاملة. وبدا الأمر ملتبساً للغاية.
ولما كانت الهزيمة الأولى أمراً واقعاً، لا أملك كشخص القدرة على مجابهتها، قررت أن أخوض معركة المعلومة عبر توثيق جزء من الحقيقة التي أُريد لها أن تختفي.
وبالرغم من وجود دافع شخصي لي كباحث ومخرج لفيلم خيوط اللعبة، إلا أني كنت مدركاً لأهمية إدارة هذا الدافع بما لا يؤثر على المصداقية والمهنيّة، ويا لها من معركة صعبة! هذه العلاقة العاطفية بين الموضوع والمخرج، تجعل المرء أمام اختبار قيميّ صعب.
– وأنت تبحث بين خيوط لعبة سقوط بلدك، في ركام الأحداث التي ما زالت تلتهب، كيف كانت الصورة عن هذه اللعبة قبل إنتاج الفيلم، وكيف بدت لك أثناء إنتاجك له، وكيف هي الآن بعد عرضه؟
شخصياً لم أكن أتوقع أن يكون لدى فئة من اليمنيين هذا الاستعداد للقتل والبطش والتفجير من أجل فرض فكرة على الآخرين بقوة السلاح. وبالمناسبة ما ظهر في فيلم خيوط اللعبة، يشكِّل نسبة ضئيلة مما توصلنا إليه، لأن السياق الدرامي والإخراجي للفيلم، فرض علينا انتقاء بعض القصص، وكذلك ظروف بعض الشهود، منعتنا من نشر الكثير من الحوادث والجرائم التي ارتكبتها جماعة الحوثي، أثناء توسعها العسكري سواء قبل أو بعد سقوط صنعاء.
وأنا أتتبع وأوثق الكثير من القصص، وجدت أن جماعة الحوثي للأسف الشديد تُقاتل داخل الجغرافيا اليمنيّة، وكأنها مليشيات غازية جاءت من خارج الوطن، لم أكن أتخيّل أن يصل الأمر أن يقاتل اليمني بكل هذه البشاعة على أرضه وضدّ شعبه.
من الأفكار التي تغيّرت عندي كلياً هو أن جماعة الحوثي، لم تتحرك عسكرياً كرد فعل لما يسمى (مظلوميّة صعدة) وإنما كان تحركهم امتداداً لمشروع الإمامة، كما دلّت على ذلك ـ
بصورة قاطعة ـ الوثيقة التي حصلنا عليها بخصوص محافظة إب. كانت الوثيقة عبارة عن خطة تفصيلية للسيطرة على محافظة إب، وكان المفاجئ فيها، أن جزءاً من هذه التحركات في هذا السياق، بدأ قبل الحرب الأولى في 2004. والمفارقة أن محافظة إب تبعد عن صعدة 400 كم.
ومما فاجأني كذلك، هو أن الحوثيين كانوا يسعون بشكل مخطط ومنهجي من أجل اختراق المنظومة الاستخباراتية للدولة. على سبيل المثال، أنا من محافظة إب ولا أعرف أن هناك مديرية اسمها مديرية الدوير، فتفاجأت عندما قرأت في هذه الوثيقة من المعلومات التفصيلية عن هذه المديرية، وأن فيها 40 عقيداً في الأمن السياسي، تطرح الخطة مقترحاً بمحاولة اختراق هؤلاء.
من خلال هذه الوثيقة ـ التي عرض منها الفيلم أقل من 25% ـ فإن جماعة الحوثي تحرص على تحويل المواطنيين إلى جنود، تقوم بإخضاعهم لدورات عسكرية؛ وتقترح الخطة توزيعهم للقتال في محافظات غير محافظاتهم. ومن المعلومات التي لم ننشرها على سبيل المثال فقط أن هناك كشفاً بأسماء كل الشخصيات الاجتماعية في محافظة إب، وأمام كل شخص مقترح لكيفية إقناعه بما يسمى بـ"المسيرة القرآنية" (الاسم الذي تستخدمه جماعة الحوثي لحشد مناصريها) واستغربت عندما وجدت اسم شيخ الجعاشن؛ صاحب القصص المشهورة في تهجير المواطنين ومكتوب أمام اسمه (يحب آل البيت ويمكن النفاذ إليه من هذه الزاوية) وأمام اسم آخر (بلطجي ولكنه يكره الإصلاح فيمكن استثمار هذا الكره بما يخدم المسيرة).
هكذا خططت جماعة الحوثي لشرخ النسيج ا لاجتماعي وخلق شروط التوسع السهل لمليشيتها.
– ما هي أهداف فيلم "خيوط اللعبة"؟
الهدف الأساسي للفيلم هو الانتصار للحقيقة، وبمعنى أدقّ، هو محاولة جادة لكشف ولو جزء من الحقيقة، حتى يعرف كل مسؤول أو أي رمز اجتماعي وكل من يتولّى مسؤلية في المستقبل، سيجد أنه عندما يمارس شكلاً من أشكال الخيانة للمجتمع، فإن أمره سينكشف، ولم يعد هناك مجال لإخفاء الجرائم التي تمارس في حق المجتمعات. ربما قبل عقود من الزمان كان بالإمكان إخفاء الكثير من الممارسات، أما الآن فلا.
حتّى الحقائق التي لم تظهر حتى اللحظة، ستظهر وسيستحي كل من مارس جرماً في حق المجتمع عندما يتخيّل أن ابنه أو حفيده سيشاهد هذه الحقائق. في اعتقادي أن هذه عقوبة رادعة على الأقل للمسؤولين القادمين.
هل تعتقد أن الفيلم حقّق أهدافه؟
إلى حدٍ كبير نعم، فلأول مرة في تاريخ اليمن يتم توثيق حادثة (كحادثة سقوط صنعاء) بعد عام واحد فقط من حصولها. كثير من الحوادث التي جرت خلال العقود الماضية لم توثق حتى اللحظة. على سبيل المثال فقط، حادثة اغتيال الرئيس الحمدي مازال الناس يتناقلونها شفاهاً في المجالس والديوانيات وبقيت القصة رغم أهمتيها دون أي توثيق رصين. في اعتقادي أن الفيلم يعتبر على الأقل خطوة ولو بسيطة في اتجاه توثيق التاريخ اليمني المعاصر.
– ما هي الحقائق الرئيسية التي كشفها هذا الفيلم؟
كشف الفيلم حقائق متعلقة بالحروب الستّ، من خلال شهادات أشخاص كانوا جزءاً من الحدث، وإفادات واضحة تستوفي شروط الشهادات التي تقدّم أمام المحاكم. كما حرصنا على تواتر الشهادات، فقد كان الشرفي على سبيل المثال، يعمل ضمن اللجان التي شكلها الرئيس المخلوع صالح وتحدث عن أناس أحياء، ومرّت أشهر ولم ينف أحد ما ذكره الفيلم. وبالمناسبة لم نورد بالفيلم إلا ما تم التأكد منه بشكل يقيني، وحتى نوضح الصورة أكثر أقول على سبيل المثال، إن بعض المقابلات مع الأشخاص الذين ظهروا في الفيلم استمرت ثلاثة أيام وما نشرناه منها هو عدة دقائق فقط.
وكشف الفيلم عن بشاعة جماعة الحوثي، أذكر هنا على سبيل المثال جريمة منطقة كُشر في حجة، فقد تجاهلها الكثير لحظة حدوثها، بحجة كسب الحوثيين وجرّهم للمربع السياسي وكادت القصة أن تندثر رغم بشاعتها.
وكذلك وثق الفيلم جريمة الحوثيين في أرحب، نستطيع القول أننا استطعنا الكشف عن الوجه الحقيقي للجماعة بشكل موثق ولا يستطيع أحد التشكيك بما ورد في الفيلم.
كما أن الفيلم كشف بالوثائق أن الحركة الحوثية كانت تخطط لإسقاط اليمن ضمن مشروع استعادة الأمجاد القديمة ولم يكن تحركها كردة فعل للحروب الستّ أو بسبب مطالب سياسية كما يزعمون. وبيّن الفيلم المحاولة المستميتة حتّى آخر لحظة من قِبل علي عبد الله صالح من أجل إسقاط الشرعية من خلال محاولة الإغتيال للرئيس هادي قبل مغادرته اليمن بساعات ـ وهي المحاولة ـ التي كشف تفاصيلها الفيلم لأول المرة. ومن المفارقة أن أحد المتورطين بهذه المحاولة كان عضواً في لجنة المفاوضات التي تمثّل وفد الحوثيين وصالح في مفاوضات الكويت.
هذه أبرز الحقائق بالإضافة الى توثيق تفاصيل كثير من الأحداث التي جرت قبل وأثناء وبعد سقوط صنعاء.
وفي هذا السياق لعل من المناسب أن ننوه لما ذكره الرئيس هادي في مقابلته الأخيرة على قناة الجزيرة، حول حروب صعدة بخصوص جدية علي عبد الله صالح في الحرب ودعمه للحوثيين بالسلاح.
في الحقيقة، كان ذلك جزءاً بسيطًا مما وثقناه في فيلم خيوط اللعبة، ونظراً لقرب هادي من المخلوع صالح طوال ١٨عاماً فنحن نعتبر ما قاله تأكيداً على مصداقية ما أوردناه في الفيلم.
– هل تعتقد أن كل خيوط اللعبة المتعلقة باختطاف السلطة في اليمن قد كشفت؟ أم أن هناك خيوطاً فضلت لأسباب ما إخفاءها أو تأجيل عرضها؟ ولماذا؟
أستطيع القول بكل ثقة أن فيلمَي الطريق إلى صنعاء وفيلم خيوط اللعبة ساهما في كشف جزء هام من الحقائق المتصلة باختطاف السلطة في اليمن.
نحن أوردنا ما استطعنا توثيقه وما وجدنا له من الشهادات أو الوثائق ما يجعلنا نورده ونتحمل مسؤليته. ما تبقى من التفاصيل وصلتنا كمعلومات بحثية لكننا لم نتمكن من توثيقها، على سبيل المثال في فيلم خيوط اللعبة قابلت الكثير من المسؤولين ممن لديهم الكثير من التفاصيل لكنهم اشترطوا لمقابلتي أن تكون المقابلة حديثاً شخصياً واشترطوا قبل اللقاء أن أستمع منهم فقط دون أن أنشر أو أنسب لهم شيئاً.
– ما هي الفوارق بين فيلم الطريق إلى صنعاء وفيلم خيوط اللعبة؟
"الطريق إلى صنعاء" وثق بشكل خاص سقوط اللواء 310 وتصفية قائد اللواء العميد حميد القشيبي، هذه الحادثة التي أثبتت الأيام أنها كانت المقدمة المنطقية لإسقاط اليمن بأكمله، أما فيلم "خيوط اللعبة" حاول أن يوثق المشهد الكلي، وحاول أن يغطي أغلب العوامل التي أنتجت المشهد الحالي في اليمن.
– حصل الفيلم على مشاهدات واسعة، وعلى زخم كبير، ماذا يعني لك ذلك؟
يعني لي المسؤولية الأخلاقية في استكمال مسيرة التوثيق ولو بمساهمات بسيطة.
– واجه الفيلم بعض الانتقادات وبعضها أتى من داخل الصف المقاوم للانقلاب، كيف تقبلت هذه الانتقادات وهل وجدت بعضها صحيحاً؟
بالنسبة للانتقادات، أقرأها بكل إهتمام، والعمل بلا شك ليس عملاً كاملاً، لكنه باعتقادي عمل نوعي وجاء في لحظة حساسة، وفي النهاية يبقى انتقاد مثل هذه الأعمال مسألة طبيعية. بالفعل لاحظت تحفظات بعض الناس من داخل الصف المقاوم للانقلاب والبعض الآخر تجاهل الأمر تماماً، لكني في النهاية متأكد أني عملت برفقة الفريق الذي عمل في الفيلم، وبذلنا قصارى جهدنا وهذا يجعلني أشعر بالرضى، وفي نفس الوقت الشعور بمسؤولية التجويد في الأعمال القادمة.
– مع مرور الذكرى الثانية للانقلاب الحوثي على السلطة الانتقالية في صنعاء؟ عاد الحديث عن فيلم خيوط اللعبة إلى الواجهة؟ باعتقادك ما هي الأسباب التي تجعل البعض يربط بين الانقلاب والفيلم؟
لأن الفيلم يتحدث عن الأسباب والمقدمات التي أنتجت الانقلاب، وكذلك نتيجة لندرة وربما انعدام الأعمال الوثائقية التي وثقت لهذه الكارثة.
– ماذا تعني لك الذكرى الثانية للانقلاب كيمني وكناشط وكمخرج للفيلم؟
حتى لا يسيطر علينا شعور الضحية، نحتاج أن نضع لحظة سقوط صنعاء في سياقها العام، تحديداً السياق التاريخي والاجتماعي في المنطقة، فلحظة سقوط صنعاء، تنتمي لمشهد كلي يغطي المنطقة العربية برمتها وربما تجاوز ذلك.
ما يحدث في المنطقة عموماً، هو في تقديري صراع بين فكرتين؛ بين فكرة الماضي الذي يستميت من أجل البقاء، يمثلها في اليمن عبد الملك الحوثي وعلي عبد الله صالح، وبين فكرة المستقبل الذي يتولّد وبإصرار، تجسده في اليمن ثورة الشباب السلمية.
من هنا تعتبر لحظة سقوط صنعاء لحظة مظلمة في سياق مشرق وبالتالي ينبغي عدم تحويلها إلى مناسبة للبكاء والعويل بل لا بد أن تكون حافزاً لنا على مواصلة النضال والكفاح وتأكيد الانتماء لفكرة المستقبل لنواجه فكرة الماضي المعيقة لتشكل دولة العدالة ودولة القانون ودولة الكرامة الإنسانية والمساواة.
ينبغي أن نذكّر المجتمع بإنجازاته مهما كانت المآلات، لأن المجتمعات عندما يُكفر بإنجازاتها لن تكون جزءاً من مشروع المستقبل، وفي هذا السياق نذكّر اليمنيين ونذكر العالم أن هناك جزءاً من الشعب مكث في الشارع أكثر من عام يأكل وينام ويصلي، ولا أتذكر -على الأقل في التاريخ الحديث- أن هناك شعباً اعتصم في الشارع أكثر من عام في سبيل الحرية والعدالة.
– ما هي قراءتك للدور الإيراني ابتداءً من سقوط صنعاء وانتهاء باللحظة الحالية التي أضحى دورها بارزاً ومعلناً؟
في الحقيقة، محاولات تغلغل إيران في المنطقة ليست مستغربة ولا جديدة، فهي دولة ذات فكر استحواذي، ومن الواضح جداً أنها تسترشد بتراثها الإمبراطوريّ من أجل التوسع. السؤال هو، ماذا يفعل العرب لمواجهة دولة كهذه؟ منذ اللحظات الأُولى لانطلاق عاصفة الحزم، قلنا أن ملف اليمن يمكن أن يوفّر النّواة الأوليّة لتشكُّل مشروع عربيّ جديد في المنطقة ـ هذا بالطبع ـ إذا أحسنا إدارة الملف وفق رؤية استراتيجية.
فغياب المشروع العربي أسهم في نجاح مخططات إيران في المنطقة، ولذلك لن يقف أمامها شيء إلَّا وجود مشروع عربي موّحد، وبالتّالي من المهم أن نتخذ من قضية اليمن وملابسات تورط إيران فيها، فرصةً لتكوين مشروعٍ عربيٍّ يحمي المصالح المشتركة. كما تقتضي اللحظة أن يرتفع القرار السياسي الخليجي إلى متطلبات المرحلة، وأن نتخلّى جمعياً عن استقطابات الماضي ونتعلّم من درس العراق.
استطاعت المقاومة والجيش المؤيد للشرعيّة التمكن من الوصول إلى مشارف صنعاء، لكن بقي سؤال حسم تحرير صنعاء بلا إجابة حتى اللحظة، وبالمقابل تجذرت جماعة الحوثي في مؤسسات الدولة بسبب هذا التأخير؟
بلا أدنى شك، استطاعت المقاومة الشعبية والجيش المؤيد للشرعيّة بمساندة قوات التحالف العربي، إحباط مخطط الحوثيين الذي استهدف الاستحواذ على اليمن، هذه مسألة باتت شبه واضحة ولم يعد يختلف حولها الناس، خصوصاً بعد تحرير مناطق كثيرة كانت في السابق تحت سيطرة الحوثيين.
مع ذلك يبقى سؤال الحسم قائماً، ويستدعي فهمه على الوجه الصحيح مقاربة الملابسات المحيطة به من عدة زوايا محلية وإقليمية ودولية.
بالنسبة لتجذر الحوثيين وسط المؤسسات الحكومية أو ما يمكن تسميته بـ"حوثنة الدولة"، تعتبر في رأيي بمثابة الخطة البديلة لجماعة الحوثي عقب فشلهم في تحقيق أهدافهم عسكرياً. من يتابع نمط تحركات الحركة الحوثية سيكتشف استراتيجتها في العمل، فهي تسعى دائماً إلى التغلغل في مؤسسات الدولة وتحويلها إلى مؤسسات شكليّة، ليسهل التحكم فيها من وراء الكواليس من خلال كيان موازٍ في كل أروقة الدولة ومؤسساتها.
ما تريده جماعة الحوثي هو أن تصبح كل مؤسسات الدولة مؤسسات شكلية تُدار من وراء حجاب وأن يكون رئيس الدولة بمثابة سكرتير ينفذ توجيهات زعيمها عبدالملك الحوثي، حينما تعذر تحقيق ذلك عسكرياً، أرادت تحقيقه من خلال المفاوضات التي لم يذهبوا إليها إلا بعد أن عينوا أتباعهم وأنصارهم في كل أروقة السلطة. نلاحظ ذلك من خلال إيقاع نقاشاتهم في مفاوضات الكويت، إذ بدا واضحاً أنهم يريدون تكوين الحكومة أولاً، بمعنى حكومة تُدير وزارات تمت مسبقاً بالعناصر الحوثية أو العناصر الموالية لهم، وبالتّالي يصبح الوزير مجرد حامل أختام يوقّع على القرارات التي تتخذها الجماعة. هكذا أراد الحوثيون تحقيق مكتسبات عجزوا تحقيقها عسكرياً عبر المفاوضات، لكن وفد الشرعية أثبت قدرته إلى حدٍ كبير في التعامل بمسؤولية مع هذه القضية.
ما تقييمك لدور التحالف وخصوصاً السعودية في اليمن، خصوصاً وأن هناك اتهامات كثيرة تشكك بجدية التحالف في إنهاء الأزمة اليمنية؟
في اعتقادي أن الإدارة السعودية الحالية تدرك جيداً خطورة الملف اليمني وأهميته بالنسبة للأمن القومي السعودي بشكل خاص والخليجي عموماً. وهذا الإدراك مهم بالنسبة لحسم المعركة ويحتاج تعزيزه إلى استراتيجية واضحة تجعل لهذا الإدراك انعكاساً واقعياً على الأرض.
كمتابع يمكنني القول أن السعودية حققت بعض النجاحات التكتيكية المهمة جدًا، لكن من المعلوم أن النجاحات التكتيكية مالم تكن جزءاً من استراتيجية واضحة المعالم فلن تجدي نفعاً على المستوى الاستراتيجي وتتحول إلى استنزاف فقط. والسؤال هو، هل لدى السعودية أو التحالف العربي بشكل عام استراتيجية يتفق عليها الجميع؟ هل ما نسمعه عن عدم وجود توافق بين مكونات دول التحالف صحيح؟ ربما الأيام تجيبنا بشكل يقيني عن هذا السؤال.
لكني كمتابع لاحظت مثلاً ضعفاً غير عادي في الخطاب الإعلامي المصاحب للحرب، على سبيل المثال الإعلام الغربي يستهدف السعودية ليل نهار ويختزل المشهد بأن هناك دولة تغزو اليمن اسمها السعودية، ليس هناك إعلام يخاطب الرأي العام الغربي وبالتّالي يساهم في تشكيل مجموعات ضغط على صنّاع القرار هناك. هذه ثغرة تجعلنا نطرح سؤال الاستراتيجية بصورة مُلحّة على الجهات المعنية علّها تستدرك الأمر قبل فوات الأوان!
– توجد اتهامات معلنة من نشطاء يمنيين بوجود صمت أو تواطؤ دولي على سيطرة وتمكين مليشيا الحوثي في اليمن؟ كيف تقرأ دور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي؟
من يتأمل الأحداث يجد أمامه بالفعل صورة غريبة وكارثية على كل المستويات؛ فنحن أمام مليشيات مسلحة تتحرك من أسوار صعدة في "شمال الشمال" وتجتاح القرى والمدن بقوة السلاح بل وتفجّر المنازل وتلغم الجثث ويأتي المجتمع الدولي وفي مقدمته الأمم المتحدة ليطالب المؤسسات الشرعية وما تبقى من الجيش الوطني أن يبقى على الحياد وبعد كل ما ارتكبه الحوثيون تأتي الأمم المتحدة وممثلو الدول الكبرى إلى حوار الكويت ليمارسوا الضغط على وفد الحكومة بحجة أن الحل العسكري لن يحل المشكلة.
التزموا الصمت عندما فُرض الخيار العسكري على الشعب اليمني بل وطالبوا مؤسسات الدولة أن تبقى على الحياد. الآن وقد بدأت قوات الشرعيّة التعامل مع الواقع العسكري الجديد باللغة التي يفهمها ترتفع الأصوات بعدم جدوى الحل العسكري ومع أهمية القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة حول الشأن اليمني إلا أنها تظل مجرد نصوص أصبحت خاضعة لتقييم المليشيات بأنها غير قابلة للتطبيق ويصبح هذا التقييم قابلاً للنقاش على طاولة المفاوضات.
مما سبق نستطيع القول وبثقة أن تعامل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بهذا المنطق كان أحد أبرز العوامل التي أنتجت المشهد الحالي في اليمن.
– كمنتج لأفلام وثائقية حول اليمن، ما تقييمك للتناولات الفنية المحلية حول الوضع الحالي اليمني؟ وما هي رؤيتك للأداء الإعلامي المصاحب للشرعية والمقاومة؟
لا أعتقد أن هناك إعلاماً موجّهاً بشكل مؤثر للإنسان اليمني البسيط، سأذكر هنا على سبيل المثال فقط، نموذج الفنان الأضرعي، لمدة تزيد عن عام وهو في الرياض وكنا حينها نحاول مخاطبة بعض الجهات للاستفادة منه كشخص قادر على مخاطبة عموم الناس برسائل تخدم توجه المقاومة والشرعية عموماً ولكن تم إهمال هذا الأمر تماماً، ولعل الجميع تابع الرسائل القوية والمؤثرة التي قدمها الأضرعي من خلال الفقرات الدرامية والغنائية والساخرة التي تابعناها خلال عيد الأضحي على قناة سهيل. برامج كهذه نستطيع من خلالها الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع، وفي ظل توفر الكثير من المنصات كا فيسبوك وتويتر والواتساب وغيرها، يجعل الناس يتجاوزون حتى إشكالية التيار الكهربائي.