استفزني كتاب "وقال الراوي" للشاعر عبد المعطي حجازي، لقراءة رواية أولاد حارتنا، الذي بدا وكأن الجزء المخصص لنجيب محفوظ مُكرسٌ من أجلها فقط؛ لذلك قررت قراءتها، بعدما سمعت كلاماً كثيراً سلباً وإيجاباً عنها، مجرد سماع كالدخان لا أكثر.
الحقيقة أن فكرة الرواية، المَبنية على تراث تاريخ الأنبياء، في قمة العبقرية، حتى إنها استحوذت على اهتمامي وانبهاري كاملين، مؤكداً عبقرية نجيب محفوظ الفَذة؛ حيث وصل إلى قمة العبقرية الأدبية في "أولاد حارتنا"، سواء في الفكرة نفسها، أو في التكنيك والقالب، أو في اللغة الأدبية المرنة والرشيقة، أو في الحبكة، رغم ما فيها من ثغرات، أو في العُمق الفلسفي، أو الترميز السياسي، وموازنته بين السرد والوصف والحوار.. أدوات استخدمها جميعاً معاً، ببراعة منقطعة النظير.
أثناء قراءتي، كنت أنبهر بكل تلك الأدوات، وقُدرته الإبداعية الفذة في الإدهاش.
– وإليكم وقفاتي فيها، هي وحدها التي أنتقضها على الكاتب، غير مُعمم حُكمي على الرواية برمتها:
* لا أدري، في بعض السياقات التي تتوارد على ذهني تلقائياً إسقاطاً على القصصِ الأصلية، أفيها نوع من الجهل بمعانيها وأسبابها ودلالاتها، أم أنه اختلق حوارات ومعاني جديدة، لا يجوز في رأيي حينها دمجها عن أصل قصصي مقدس، وإلا سيقع الكاتب في فخ إرباك المتلقي، مما يجعله عُرضةً لتصديق ثقافي مُحرف بين الحقيقة والخيال.
وهكذا يدلس الشيطان الحقائق على بني آدم.
فكأنما الكاتب هو إبليس يشوه الحقائق، يجعلها كالصنم، الذي تُلفق عنه الأساطير حتى يُعبد ويُصدق!
مثل على ذلك:
– "هذا الرجل أسوأ من ابنه إدريس..". (ص92)
– "هل وعدك البلطجي الأكبر بالحماية؟".
ومن ذلك النهج الكثير، الكثير بلا حصر في الرواية، نقم كثير من الشخصيات على الجبلاوي بشكل مباشر.
فإذا كان يقصد الجبلاوي، فذهن المتلقي يتجه تلقائياً لأصل الرمز الذي أسقطه على الجبلاوي أو العكس.. وهو الله تبارك وتعالى، فهو يصنع من القصة الأصلية في بعض المواضع قياساً جريئاً أو مفهوماً مغلوطاً، كأنه يتلاعب بالرموز في شخصيات مختلقة، تفلته من المحاسبة.
أخرج سياقات أصلية في إسقاطها من مضمونها، وبالطبع فإننا نسعى دائماً نحو المضمون، مهما اختلفت الأشكال، فهنا هو حَرّف المضامين والدلالات، وألبسها مضامين باطلة ودلالات مُدلسة عن الأصل، فإذا لم يرِد ذلك، فلماذا استعان بالإسقاط عن أصل مُقدس؟، أليست مغامرة كبيرة أكبر من عبقريته؟
* مقتل همام على يد قدري كان سطحياً للغاية، وليس فيه مُبررات الدفن الكافية، وليس فيه الإحساس الإنساني المطلوب عند البني آدميين، عندما يتعرضون لموقف مُشابه، كما عُرضت القصة الأصلية تأصيلاً للبشر، وسوقاً للحالة العامة التي قد تجتاح أي إنسان في موقف القتل.
* بالنسبة لمعالجة شخصية الجبلاوي، فلم تكن تصرفاتها مُوفقة وقياسية ومنضبطة الاقتباس، فدائماً كنا نرى سخط أبنائه عليه؛ لأنه تركهم بلا أي مَدد، ومنع عنهم رحمته ومدده، وكان يمكن خلق أو إيراد بعض الشخصيات، ليكونوا يد الجبلاوي التي تساعد وتدعم وترحم، مثل ابنه رضوان والآخرين، باعتبارهم في مصدر الإسقاط هُم "الملائكة"، الذين يأتمرون بأمر الله فيما يخص عباده.
* كنت أظن أن عبقرية نجيب محفوظ ستُعالج وجود إدريس بأولاد وحَفدة، يقومون مقامه في الكُره والحقد، على بني أدهم، ويصنع من ذاك المسار حَبكة درامية مُتشابكة، تُظهر الصراع بين بني إدريس وبني أدهم، وليس بين بني أدهم مع بعضهم على الوَقف فحسب، فإهماله لهذا المسار أعطى مَلمحاً بعدم أهمية دور إدريس في القصص الأولى مع الجبلاوي وأدهم.. فقد كان بإمكانه صُنع أزمة تؤدي لطرد أدهم، ومُعاناته فقط في سبل العيش ومُراعاة أولاده، لكنه أغفل هذا المسار المهم.
وصراحةً خذلني في عبقريته بتلك النقطة، فكنت أظن أنه سيحاول أن يُبين أن الشر في العالم موجود لأمرين جوهريين: تأثير الشيطان على بني آدم، وتأثير نفوس بني آدم على بعضهم؛ لذلك فالقصص خالية من معانٍ أساسية لم تدخل الإسقاط، رغم اقتباس السِّير الأصيلة بشكل رمزي، فكيف نتخيل الدنيا بدون إبليس ولا شره؟! فقد نسي الإجابة عن هذا السؤال في الرواية، بعدما كرس لبني أدهم وحدهم.
هنا تظهر "أولاد حارتنا" بقياسات خاطئة منطقياً وفنياً، بصراعات زائفة، سببها الوحيد سطوة بني أدهم على بعضهم، بلا أي وازع على الشر، لا فرق كبير بين وُجود الشيطان من عدمه، فتلك سَقطة فلسفية وفنية كبيرة في الرواية.
* كذلك فهناك إسقاطات غير مُقنعة، وتبدو كفانتازيا ليس لها ما يُبررها، لم يستطِع الكاتب معالجتها فَنياً كما ينبغي، فكيف يكون لرجل أو لجد أن يبقى مائتي عام أو أكثر؟، تمثيلاً للجبلاوي.
ألا يعد هذا السياق من اللامعقولات ومن قبيل الخيالات والعبثيات واقعياً، لا إشكالية في ذلك، إن كان هناك دلالة معينة لذلك مثل القوة وطول العُمر، فما فائدة ذلك وقد مات؟!.. إنما كان يمكنه اختلاق أساليب وشخصيات لتحقيق الواقعية، وتأسيس إسقاطات سليمة غير آيلة ولا واهية، كأن يدع أحد أولاده الصالحين يتوارثون حُكمه، وينفذون منهجه ووصيته.. عدة وسائل كان يُمكنها التعبير عن الإرادة العُليا.
* كل ذلك كوم، والكوم الآخر قصة "رفاعة"، التي تُقابل قصة عيسى، عليه السلام، وقضية موته أو رَفعه، فالإسقاط الذي ساقه في القصة أنه مات، وفي أحسن الأحوال أن الجبلاوي أخذه ودفنه في حديقته!
وأعود فأقول: لو أراد الكاتب إسقاطاً من أصل الإسقاط، فلماذا حَكم على رفاعة بالموت، وهو ما يُنافي عقيدة المسلمين، ولو كان لا يريد إسقاطاً، فلِمَ الحاجة للاقتباس من قصص الأنبياء، والضياع في شرك الشُبهات، والتلميح باعتراف صلب المسيح؟!
كانت هناك حلول فنية كثيرة، كأن يرسل الجبلاوي لرفاعة، يُحذره، لينقذه من أعدائه، كما أرسل لهَمام من قبل؛ ليعيش معه في البيت الكبير، وهنا يظهر ثباته على العقيدة الإسلامية من زاوية، ولا يُشاطر المسيحيين شبهة الاعتقاد بصلب المسيح.
كان يمكنه أن يجعل له شبيهاً من ضمن أصحابه، فيخونه، ويُقتل بدلاً منه؛ لذلك خيانة ياسمينة غير مبررة، وليس لها موقع في القصة، حتى إنها لم تُقتل بدلاً منه، رغم أنوثتها!
كان يمكنه أن يبقي له رمقاً من حياته إثر ضرب الفتوات له بالنبابيت، فيُنقذه أصحابه، أو يأتي من عند الجبلاوي مَن يحمله إلى البيت الكبير.
وهكذا لا أدري سبباً يُبرر للكاتب سياقه الروائي، سوى أنه تعمد قتل رفاعة في سياق قصة عيسى، دلالة على اعتقاد خاص به، حتى إن لم يكن، فهو تلميح للقارئ لهذا المعنى، بأن عيسى قتل أو صُلب، وكان يُمكنني مثلاً عزو هذا الاعتقاد للراوي بأول الكتاب لو كان رفاعياً، فكأن الراوي يروي من وجهة نظره الرفاعية، لكن دلائل تُعطي ملامح عن كونه قاسمياً، مثل طوافه بالبيت الكبير، مثل الطواف بالكعبة، ومثل حديثه عن قاسم حديث المُعترف به، وهو ما لا يعترف به الرفاعيون، أيضاً تلميحه للفقر والمهانة والتبعية والمذلة، وهو ما يُمثل المسلمون في واقع عربي مهزوم وكاسد، أيضاً تكليفه بكتابة تاريخ أولاد الحارة الصحيح، في كتاب خالٍ من التحريف والتبديل، وهو ما يُشير إلى القرآن الكريم نسبةً إلى المسلمين.
غير شافع له عن سياق القتل والصلب تسمية رفاعة بمعنى الرفع للنبي المرفوع في الاعتقاد الإسلامي، ولا كونه أتى بعده بقاسم، الاسم المقتبس عن مصدر سيرة نبي الإسلام محمد، لأن كل ذلك قد يكون دبلوماسية غير مفهومة في السياق الدرامي والفكري!
* ثم بعد هذا السياق اللماح، نتجاوز فترة قاسم، لتأتي بعدها فترة عرفة، وهنا يُورد تلميحاً غريباً في صورة، بمقهى، يُشاهدها عرفة عرضاً، وَصفها بأن الجبلاوي يحمل جثة رفاعة ويرفعها بين يديه، ويسكنها بيته، في إشارة إلى رفع عيسى، وما اعتقده الناس وحرفوه بأساطيرهم، إزاء قصة نهايته، عبر تواترات الزمن، غير مُصدق على حقيقة نجاة رفاعة، وما حصل فعلاً آخرها، وكأن هناك تفسيراً للرفع، بأنه نِتاج خيال الناس ومبالغتهم وجهلهم.
حتى لو افترضنا أن الراوي يتحدث من وِجهة نظر رفاعية فعلاً، نظراً لوجود الصورة في مقهى حارة الرفاعية، فلماذا تعمد الكاتب أن يُكرس ويُهيمن لذلك الاعتقاد، في الرواية كلها، من وِجهة نظر رفاعية فقط؟!
وإني لأتساءل: ماذا يكون موقف لجنة جائزة نوبل من الرواية، التي فازت بها، لو كان سياق حبكته اتجه إلى أن الجبلاوي آوى رفاعة في البيت الكبير، ليعيش بجانبه، ويحفظه من مؤامرة الفتوات، ويحبط كيدهم، ما يتسق مع السياق المقدس من رفع الله لعيسى إلى السماء حياً، لينجيه من مكر اليهود؟، هل كانوا يرشحونها لـ"نوبل"، أو يدعونه يفوز بها حقاً؟
* بصرف النظر عن محاولة طمس ملامح القصة الأصلية المقدسة، أو محاولة قلب الحقائق فنياً، بحيث تختفي المعالم، فإن القارئ حينما يتعامل مع نص مأخوذ، أو مقتبس عن أصل مقدس، يكون في تتبع بذهنه لمسار حقائق مُعتقده الأصيل، ويمضي بانتظام في عزو وإلحاق ورد الأحداث والشخصيات إلى وقائعها الأصلية، فيتشتت، إذا تنافرت مع المعلوم من معتقده بالضرورة، أو تأخذه الحَمية على منطقة خاصة جداً، تُعزز إيمانه، يشكك فيها الروائي، ولا يحترمها لدى قرائه، فيُحدث نوعاً من الصِدام، والرفض، أو القبول برؤية الكاتب جهلاً وضلالاً.. وهذا النوع من الكتابة صعب تقبله لدى المُتدينين، وهُم فئة كبيرة مهمة، أجد الكاتب قد أوقع نفسه في فخ الخصوصية الدينية، والتلاعب بالمقدسات وتحريف المعتقدات.
إنها لعبة خطرة، لا تنجح دائماً مع المتلقين، ويتورط فيها العباقرة بغرور من براعتهم.
أخص الأخيرة بسبب تناولها لتاريخ الأنبياء وبداية الكون بالاقتباس والإسقاط..
ومَن قال إننا لا يُمكن أن نفعل ذلك مع التلمود، فهُم اقتبسوا تاريخ الأنبياء، وأسقطوه على أبطال بنفس الأسماء والمكانة، ولفقوا لهم قصصاً ليس لها أساس من الواقع، أو حرفوها لتأخذ صورة جديدة.. والتبريرات كثيرة، لنُشوه الحقيقة أو نُلبس الحق بالباطل، بل ونتخذها ذريعة لإهانة الذات الإلهية، وإهانة الأنبياء، ونقول ببراءة إنها فن!.. أليس من الممكن أن يُزين الشيطان لجيل قادم حقيقة "أولاد حارتنا"، ويُدلس عليهم، فيعدونها كتاباً تاريخياً للأنبياء؟، أو يستمدون منها صورة معيشتهم الدَنية.
وعليه، أسوق مثالاً، فصل فرح قاسم وقمر، وما تخلله من دَنايا، ثم المخدرات والحشيش والخمر التي تناولها قاسم، ليس لها معنى غير تدنيس الاقتباس والإسقاط، وتشويه القيم.. فكيف يتفق أن تكون تلك المحرمات والأدناس مُصاحبة لأكرم فتى في حي الجرابيع؟!
وكيف يختلف عن أقرانه أو أهل حيه، بحيث يقود الحي كله بقيمه النبيلة ومنهجه القويم، لدحر الباطل، وزجر وُجوهه المُنكَرة؟!
* ثمة ثغرة.. فمن المفترض أن ناظر الوقف يتعامل مع البيت الكبير والواقف مباشرةً، فكيف يكون الناظر، رغم تكبره وتجبره واستبداده وطمعه وجرائمه كلها، مَرضياً عنه من قِبل الواقف؟!.. وكيف يكون في وَظيفته التي كلفه بها الواقف، ومن المعلوم من قصة أدهم أن غير المَرضي عنه والمُخطئ والمجرم، يُطرد من البيت الكبير، ويُستبعد عن الوقف، مثلما حدث مع أدهم، رغم هوان إثمه مُقارنةً بجُرم النُظار!، واستبعاد قدري عن دخول البيت الكبير، بسبب طيشه وفُحشه مع هند!، مع أن جرائم النُظار أعظم وأشد طُغياناً!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.