الكثير منا اليوم أصبح يغوص في أعماق عالم افتراضي دخل حياتنا فجأة وأغرى الكثيرين فحضروا بذلك جوازات سفرهم إليه؛ لينطلقوا في رحلة فريدة من نوعها، فريدة من حيث شكلها، من حيث المغامرات التي تضمها، وأيضاً من حيث الأمراض التي تنقلها إليهم إن ضلوا الطريق داخلها، وقد نذكر منها مرض التناقض أو الانفصام الشخصي الذي أصبح من الصعب علاجه.
لا ننكر أن وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام بشتى أنواعها أتاحت مساحات كبيرة للتعبير وتبادل الآراء والحوارات في إطار ما يسمى ديمقراطية التواصل، فمن خلالها وصلت أصوات البعض من المهمَّشين واليائسين، من الشباب المبدعين والمبتكرين، ومن السياسيين والحقوقيين، فأصبح بذلك الكل تحت سقف واحد، كل يطلع على الآخر يساعده، يدعمه، ويناقشه.
غير أن البعض ممن ضلوا الطريق وسط الرحلة غرقوا بين التفاهات، فذاك ينقل الإشاعات والأكاذيب، وآخر يدعو إلى التطرف أو يهاجم باقي الديانات، ذاك عنصري، وآخر يهوى تقمص الشخصيات، والكثير منهم أصابهم مرض الانفصام الشخصي، أو التناقض بين ما هو واقعي وما هو افتراضي.
وفي هذا السياق أذكر أنني قرأت يوماً في أحد المقالات لكاتب عراقي قصة سلسلة إذاعية كانت تبث على قناة "بي بي سي" بعنوان نصف ساعة مع هانكوك، هذه السلسلة كانت تحمل في طياتها تناقضاً وتبايناً بين شخص كان يقضي حياته في الكتب والثقافة، ويجهل كل الأمور العملية في الحياة، ويعتمد على زميله العمالي الشعبي سيدني جيمس في إنقاذه من مستنقعات الحياة؛ إليكم مقتطفات من إحدى حلقات هذه السلسلة:
يذهب هانكوك ليشتري شيئاً من دكان سيدني جيمس، يدفع له ورقة بـ5 باوندات ويعيد إليه جيمس الباقي ببضعة بنسات قليلة، ما هذا؟ يقول له هانكوك: هذه 9 بنسات فقط؟ فيرد عليه جيمس مستكبراً: "9 بنسات تقول"، انظر إليها جيداً، انظر إلى تاريخ سكها وإصدارها؟ خذ! انظر لهذا البنس! إنه يحمل تاريخ 1938، كم ارتفعت الأسعار منذ ذلك التاريخ حتى اليوم؟ 50 مرة؟ مائة مرة؟ أنا حسبته لك بـ50 بنساً فقط؛ لأنك صديقي وزبون قديم، انظر للبنس الآخر، إنه يحمل صورة الملك جورج الخامس، هذا البنس يجب أن يساوي ما لا يقل عن 200 بنس بأسعار اليوم، أنا حسبته لك بـ150 فقط! وخذ هذا البنس الآخر وعاينه جيداً، إنه يحمل الرقم 1941، كم ارتفعت الأسعار منذ أيام الحرب؟ ويمضي سيدني جيمس في حساباته الفهلوية.
فإذا به يكشف لصاحبه هانكوك أنه أعطاه أكثر مما يستحق! فيهز المثقف الفيلسوف رأسه مقتنعاً سعيداً: آه! يا عزيزي سيدني، لا أدري كيف أستطيع العيش من دونك، ويلتقط هانكوك هذه البنسات ويمضي في طريقه ليبتاع شيئاً آخر من دكان مقابل، يحاسب البائعة على أساس ما تعلمه من صاحبه جيمس، فيضحك عليه الحاضرون.
أضحكتهم سذاجته وثقافته الزائدة فقد كانت هذه الصفة هي أساس الكوميديا في هذه السلسلة، وهذا ما جعلنا نضحك ونشفق على صاحبها، تناقض مضحك؛ لكنه يبكي لأن ذلك الممثل انتحر في الأخير بسبب المأساة التي كان يعيشها.
والكثير منا اليوم أصبحوا يعيشون تناقضاً رهيباً لكنهم لا يدركونه؛ لأن حاسة الاستقبال عندهم تعطلت واختلت موازين عقولهم، لماذا حدث كل ذلك؟ لماذا اختاروا العيش داخل صندوق الأوهام، يتجولون عبر أنحاء عالم خيالي، هل الواقع وحش يخشونه؟ أم يخافون من أن تكشف متناقضات شخصياتهم؟ أم لا يستطيعون العيش بما يشتهون؟
هذا العالم الافتراضي أخرج الكثير والكثير من مكبوتات البشر.. من فضفضات وإبداعات وافتراءات وعلم وجهل وثقافة إيجابية وسلبية ودين وإلحاد.. وصداقات وعداوات بل وأصبح معتمداً للبعض على التعارف والزواج، مع أنني أؤكد أنه لا يمكن لمشاعر الحب أن تنتقل بين الأسلاك إلى الطرفين، كل ما في ذلك كذب وغرام بائس يبدأ برسالة وينتهي بحذفها.
كما أصبحت الصلة الإلكترونية بديلة عن الزيارات واللقاءات على أرض الواقع، حتى إن حدث وتحققت، فالكل تجده مشغولاً بهاتفه الذكي الذي قتل الحوارات الواقعية، وكيف لا يصبح هو العالم الواقعي؟ وهو من يدخل الشخص عليه متجرداً من كل ما يرتدي من أقنعة أمام الواقع ليختبئ خلف شيء واحد قد يكون اسماً مستعاراً مثلاً وقد لا يختبئ.. ويخرج كل ما لا يقدر على إخراجه في حياته الطبيعية..
فتنكشف شخصيته الحقيقية من مميزات وعيوب بدون أي تعديل أمام هذا العالم الوهمي والافتراضي حين يتعامل مع شخص آخر رجلاً كان أو امرأة.. وكثير من الحوادث عرت البعض وأكدت البعض في شخصياتهم.
أهواء الضالين في هذه الرحلة لا ترحم، تقاوم جهدها لتدمير أخلاق ومبادئ الأمة على حساب ما يرضيها، رغم أنها تملكت أرباحاً كبيرة وعلاقات ضحلة فإنها ما زالت تحمل قيماً قليلة، توهم نفسها أنها على صواب إلى أن غرقت في وحل تناقضات الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.