وإنك حين تطأ قدماك أرضها ستشعرُ براحةِ بالٍ تعتريكَ وطمأنينةً في نفسك لا تعرفُ مصدرها، ويكأن الله يرحب بك في أرضهِ المقدسة، يمن عليكَ برحماتهِ ويجودُ بنعمهِ التي لا تُحصى عليك، فلا يكفي أنه أنعم عليك بزيارةِ بيتهِ المُقدَّس والفوزِ بكل ما فيه من غنائم، بل ويَجودُ باللطف والعطف والرحمة ويُنَزّلَ على قلبك سكينةً لم تشعر بها قط.
مع أول جولةٍ لك في أرضه لتنتقل إلى بيته لا تدع زخارف آل سعود ولا أبراجهم تشغلك عن جمال الجبال حولك، فستجدها حتماً في كل مكان، لا تكلفك رؤيتها إلا أن ترتفع بقلبك ووجدانك كله قبل عينيك لأعلى، وتترك لنفسك العنان وتَسْبَح بخيالك قبل 1400 عام؛ لترى بُيوتَ المسلمينَ بين الجبالِ الشاهقةِ ملتفةً حولَ البيتِ العتيق، وترى الصحراء السرمدية الواسعة ولهيب الشمسِ يُكوِّنُ سراباً على مسافةٍ غير بعيدة منكَ، أو لَعلك اعتقدتَ ذلكَ لِكِبَرِ الفلاةِ وامتزاجها مع الفضاء.
وكيفَ كانَ الناسُ في زمانِهم يتحملونَ حرارةَ الشمسِ ولهيبها، وكيف كانت ألوانُهم وأحجامُهم وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي نوراً بينهم، وكم كان هناؤهم بصحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتتخيل كل تفاصيل حياتهم ومواقفهم، من اللعب إلى جلسات العلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى تجهيزاتهم لرحلات الغزو إلى أنباء استشهاد أبنائهم، إلى حوادثهم، وكل ما قرأته وتعلمته عن حياتهم، فصدقاً لن تستشعر أياً من هذه التفاصيل يوماً كما ستستشعرها يومها، ما عليك فقط هو أن ترتفع وتسبح في فلك وجدانك، وتسأل الله الإخلاصَ ولينَ القلب وَرِقّتَه.
وعندما تُصبح على أبواب الحرم المكي لن ترى الكعبة، بل سَتَرى تلك الساعة العملاقة المشؤومة التي تَعلُو أحد الفَنَادِق السياحية، أو بالأَحْرَى ستراها فورَ نُزُولِكَ من الطائرة، فَلَا تجعلها تُفسِد عليك رحلتك الربانية، وفي هذه اللحظة بالأخص أنتَ لا تحتاج إلا أن تنُظرَ أمامك لِتَجِدَ أقربَ بابٍ للدخولِ إلى صحنِ الكعبة؛ لتجد العظمة والبساطة والجلال والجمال والشرف تجمعت في شيء واحد لن تجد له مثيلاً، وأنتَ تُردد "اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وإجلالاً".
لن تجد الكعبة بناء ضخماً مزخرفاً أو مزركشاً أو مرصعاً باللآلئ والأحجار الكريمة، ولن ترى فيها أي لونٍ من ألوان الزينة، كما يفعل ملوكُ الدنيا الفانونَ في بيوتهم، ولعل في ذلك حكمة إلهية، ولعل الله يريد أن يخبرك كيف يكون الملك الحق، وأن الدنيا زائلة لا محالة، وكل زخارفهم زائلة "حَتَّى إذا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أو نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الآية 24 من سورة يونس).
وأن العظمة تَتَأتى بالقربِ من اللهِ الملك الحق والتذللِ عنده، والطمعِ في كرمه ورحمته وابتغاءِ مرضاته، وأن ملوكَ الدنيا الزائفين الزائلين لا يملكون من أمرهم هم شيئاً ليملكوا من أمرك شيئاً يا مسكين، والكثير من الدروس والمعاني التي لا تسعُها الأوراق ولا تكفيها الأحبار، وعلى قدرِ العزم تجدُ ما يرشدُكَ وينيرُ دربكَ من الرسائلِ الربانيةِ في أرضهِ المقدسة.
مِنا مساكين غافلون عن خير وفير وجود عظيم من رب أعظم وأكبر، فكل خطوة تخطوها وكل شَعيرة من شعائر الله تؤديها، سواء كانت ركناً أو فرضاً أو سنةً هناك، فدعاؤك مُستجاب، والملائكةُ تَحُفكَ، فتظل تدعو الله حتى تظنَ أنك اكتفيت وما عاد بجُعبَتِك شيءٌ لم تدعُ الله به، فهي رحلة تستحق أن تكون ربانية فقط لا يشوبها التفات عن الهدف الأسمى لها، فكلها مواطن استجابة وخلوة مع الله.
ولا أخفيك سراً إن جئت من بلدٍ تفشى فيه الظلم يا صديق، فستقف مذهولاً أمام رجال أمن الحرم وخدامه، فهناك شرطي وجدك جالساً في غير المكان المخصص للجلوس جاءك بلطفٍ يقول لك: "قُم يا حاج فهنا ممنوع الجلوس، قُم يا حاج الله يرضى عليك"، وتمر من أمام آخر فتسمع صوتاً يأتيك من خلف الكمامة الطبية يدعو لك بالقبول، ويهنئك على حج بيت الله الحرام أو زيارته، وآخر وجدك مخالفاً، ولكن لطفل صحبك تركك تقضي حاجتك، ومنهم من وجد فتاةً تقف أمام أوعية ماء زمزم الملتف حولها رجالٌ من جميع الجهات ينتظرون أذان الفجر، فسألها عن حاجتها لتخبره فيقوم بإحضار الماء لها، ولا يكاد ينتهي موقف حتى تتوالى بعده مواقف كثيرة، تزدحم القلوب لها امتناناً وعرفاناً بالجميل الذي صنعوه، والله جميلٌ لطيفٌ كريمٌ أن أنعم عليك بكذا نعمة.
ولكن وجبت عليّ أمانة أوفّيِكَ إياها، فباب الكعبة الذهبي الذي يقبع داخل جدار الكعبة الشرقي الآن شاهداً على الصلاة والطواف بينما تقرأ أنت هذه الكلمات يبلُغ من الذهبِ الخالص وزن 280 كغم، نعم رقم هائل وإسراف وإفراط غير مسبوقين في السنة أو حياة الخلفاء الراشدين أو في السلف الصالحين، وكان يكفي أن يُطلى الباب بماء الذهب تكريماً لبيت الله أو غير ذلك، ولكن بدون إفراطٍ ولا تفريط، فلو كان آل سعود اقتدوا بالسنة والسلف الصالح لاستثمروا أموالهم في خدمة المسلمين المستضعفين في الأرض، بدلاً من باب لا ينفع ولا يضر، ولكن أين خدام الحرمين في يومنا هذا من حال أُمتنا؟
أيا صديق لا تَضنّ بجُهدٍ في سبيل زيارة بيت الله العتيق، فوالله ستعود بخيراتٍ وبركاتٍ لا تُحصى، ويا من زُرت بيته احمد الله على نعمته فقد رُزقت والله خيراً عظيماً ورزقاً كبيراً، وإلى لقاءٍ آخرٍ في رحاب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.