لا أرى في اختلاف الآراء ضيراً، فكل إنسان تعتمل في مخيلته أفكار نسجت حسب مؤهلات عقله وظروف محيطه وملابسات كثيرة لا حسر لها، ذلك أن صناعة الأفكار لا تتم في مصنع واحد؛ ليفهمها الكل بنفس الطريقة، بل كل إنسان تتمثل لديه الفكرة نفسها بطريقة مختلفة عن غيره.
لكن الأمر مختلف حين يتعلق بمعتقدات الدين، الأمر مختلف من حيث الاطمئنان لاختلاف البشر في هذا الجانب.
هناك من يدعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وكامل الصواب، والحقيقة أن لا أحد يملكهما، فكل شخص يفهم الخطاب الديني من زاويته، بسيط الفهم يأخذ بظاهر القول، والمتعمق لا يكتفي بذلك، بل يبحث في أعماق القول عن معنى قد يظهر مخالفاً لما يفهم لأول وهلة.
وهذا التضارب بين الأفهام ليس على مستويين اثنين فقط، الظاهر والعميق، بل على مستويات كثيرة تختلف باختلاف العقول والمذاهب، ولك أن تتصور حجم الاختلاف الذي قد ينجم بعد ذلك.
فبما نلوذ من هذا الخضم الواسع من الاختلاف الذي قد يورث القلب حقداً على غيره، لمجرد أنه لم يتوصل أحدنا لفهم الفكرة بالطريقة التي فهمها غيره؟ قد تنشب الأحقاد التي لا يحمد عقباها إثر ذلك، والأدهى من ذلك أنه قد يصل الأمر إلى إطلاق الأحكام على البشر بشكل مجازف، ظناً من أحدهم أنه صاحب الفكرة الأصوب، فتنطلق الألسن تُزندِق هذا وتُكفِّر ذاك.
وحسب فهمي المتواضع، فقد أعفانا الإسلام "كأفراد" من محاسبة الناس على معتقداتهم، وسلب منا رخصة إطلاق الأحكام الجزافية على من يخالفنا في الدين أو الفرقة أو الطريقة، لأن الأمر ليس موكولاً للفرد، بل لرب الفرد الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يكفينا أن نحتفظ بما نعتقده عن المخالف لنا، ديناً أو فرقةً أو طريقةً، لأنفسنا، فذلك أسلم للعلاقات الإنسانية في نظري.
وعندما أتحدث عن عدم إطلاق الأحكام فهذا لا يعني مطلقاً تأييدي لفرقة أو دين أو طريقة على حساب أخرى، بل الأمر في أساسه محاولة لصياغة مخرج لمأزق لطالما قض مضاجعنا وأرَّقنا، ألا وهو الصراعات والمشاحنات التي قد تنشب كلما لاحت بوادر الاختلاف بيننا، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية، إذ الصراع حينها أشد.
إنني أتحدث من منطلق فكرتي كمسلمة تقرأ القرآن الكريم فتجد الكلام يُحدِّث العقل بأن في الدنيا يحدث تدافع بين البشر لولاه لفسدت الأرض، وهذا التدافع لا يكون أصله إلا اختلاف البشر فيما بينهم، وتجد الكلام مرة أخرى يخبر أن الله تعالى هو الحاكم فيما كانوا فيه يختلفون، معنى الحاكم أنه أعلم بجوانب الفكرة ومنطق الرأي عند كل فرد، الأمر الذي يقصر عنه كل واحد منا لقصور العقل بالضرورة على أن يحيط بكامل جوانب المعتقد عند غيره لنوازع الاستئثار بالفكرة تارة أو قصور فهمٍ تارة أخرى.
فلِم يُكلِّف الواحد منا نفسه عناء الخوض في معارك تمحيص الآراء والمعتقدات، والله تعالى يَكفُله ذلك يوم القيامة بمطلق العدل وكامل القسطاس.
ما كان رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يُحاجِج الناس فيما هم معتقدون به، كون همه أكبر من ذلك ألا وهو الدعوة إلى ما أوحى له الله تعالى من الحق بالقول والفعل، فما أغفله الناس من كلام الله تعالى، تبدَّى لهم واقعاً يعيشه الرسول عليه الصلاة والسلام في سلوكه حركة وسكنة، هي الدعوة التي كانت تشغل حياته عليه السلام، وما سمعنا عنه يوماً أنه قد ظل يجادل من كانوا حوله من غير دينه وملّته.
هذا هو المنطق الذي نصبو إليه، أن يكون الهم الأكبر هو أن نتمثل ما نعتقد به واقعاً في حياتنا، فذلك أنفع من أن نتطاحن بسبب اختلافنا في معتقدات الدين كلما اجتمعنا في دائرة حوار بيننا، الحال في غنى تام عن ذاك التطاحن، ليكن الهم أرقى من ذلك، فقد سئمنا هذه المحطة التي لم نتقدم عنها منذ قرون، إذ ما زالت تنشب المشاحنات بيننا مثلاً، بسبب مسائل بسيطة اختلف حولها الأئمة الأربعة وما زلنا نختلف حولها حتى الساعة، وأمثلة المشاحنات في هذا الدرب عديدة لا تحصى.
هي دعوة أن نتجاوز هذا المنطق الذي يسحبنا متقهقرين في الوقت الذي يعمل فيه آخرون على مسايرة خط الزمن الذي يواصل حركته وسيره نحو الأمام غير مبالٍ بمن تخلف عنه من المغفلين السُّذَّج.
فرهان الشعوب مسايرة هذه الحركة الدؤوب للزمن، وما كانت أمة رائدة في حقبة من الحقب إلا ووَجَدْت أبناءها يفطنون لتيار الزمن التي ينجرف وينخرطون في حركته حتى يتسنى لهم الوصول إلى تحقيق النفع من استثمار الوقت الذي يحوي حياة هذه الأمة، وما حياتها إلا مجموع حياة أفرادها، فكيف لأمة أن تزدهر وقد ركن أفرادها إلى ما لا يجدي نفعاً في ذلك!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.