“موكادور” وموسيقى العبيد

في كل مرة أزور فيها مدينة الصويرة إلا وأكتشف فيها جمالاً جديداً، وسحراً جديداً يتكشف لي وسراً مفقوداً أفك رموزه، لست بساحر، ولا بكاهن، ولا بدجال حتى أقول بمقدرتي على ترويض سحر مدينة بحرية تعج بالأساطير والأرواح والرموز والمعاني، تستقبلك مدينة الصويرة بعاصفة رملية، أو بريح صرصر عاتية، أو بصفير حاد، وهذا أقل الإيمان، إنها تلفظ كل كائن جديد، وكل غريب مفقود

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/16 الساعة 08:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/16 الساعة 08:23 بتوقيت غرينتش

في كل مرة أزور فيها مدينة الصويرة إلا وأكتشف فيها جمالاً جديداً، وسحراً جديداً يتكشف لي وسراً مفقوداً أفك رموزه، لست بساحر، ولا بكاهن، ولا بدجال حتى أقول بمقدرتي على ترويض سحر مدينة بحرية تعج بالأساطير والأرواح والرموز والمعاني، تستقبلك مدينة الصويرة بعاصفة رملية، أو بريح صرصر عاتية، أو بصفير حاد، وهذا أقل الإيمان، إنها تلفظ كل كائن جديد، وكل غريب مفقود، وكل زائر يبتغي الأُنس السهل، ولسان حالها يقول: إذا أردتم اكتشاف أسراري فعليكم مجاراة قوَّتي وتجنب عاصفتي وترويض غضبي، قالت لي كاهنتي: فلنرحل، هذه مدينة موحشة وشديدة الغضب وشاحبة الظل ولا مكان للأنس فيها، أجبتها: سنجاريها ونكتشف أسرارها، فهي مدينة فيها مخبوء.

وكذلك كان، فما أن تلج أزقة المدينة القديمة حتى تبدأ مسيرة كشف الأسرار، أروقة هناك وبازارات هنا ومحلات الصناعة التقليدية منتشرة في كل مكان، وورش لترميم الأسوار المتهالكة في محاولة لتمديد الأجل، أجل الحضارة القابعة في الزمن، لكن ما يلفت انتباهك وأنت تشقُّ أزقة المدينة القديمة هي شكل المباني القديمة والزخارف التي تزينها ثم الألوان التي تغطِّي واجهاتها، خصوصاً اللون الأزرق والأبيض، وبعض هذه المباني حوّلها ملاكها إلى فنادق سياحية أو دور للضيافة. نصل غير بعيد من القلعة البرتغالية، ومن ميناء المدينة إلى ردهة بها مقاهٍ وأماكن للترفيه، فدعاني صديقي للجلوس في مقهى "الراسطا" واحتساء مشروب، ولهذه المقهى جمالية اعتبارية لدى زوارها، خصوصاً من الفنانين والموسيقيين، ففيها تُعزف الموسيقى العريقة بانتظام من "الريغي" و"البلوز" و"الروك" و"كناوة" أو "تاكناويت"؛ حيث لهذه الأخيرة مكانة عظمى لدى سكان المدينة وزوارها، ولا أدل على ذلك من احتضان مدينة الصويرة للمهرجان السنوي لكناوة، وهو واحد من المهرجانات العالمية المرموقة التي يشارك فيها موسيقيو "كناوة" الكبار، أمثال المعلم "حميد القصري" و"محمد كويو" و"سعيد الدامير" و"مصطفى باكبو" وغيرهم.

في المساء، تتحول بعض أزقة المدينة إلى فضاءات موسيقية مفتوحة، تُعزف فيها الموسيقى من طرف عشاق فن الشوارع، وهؤلاء الشباب وحدهم يحولون المدينة إلى لوحة فنية رائعة، وتراهم يبدعون في أداء الروائع من المعزوفات العريقة، بل يبدعون أكثر عندما يمزجون بين أجناس موسيقية مختلفة. لكن لموسيقى كناوة وحدها سحر خاص، وهي تُعزف بالمدينة القديمة، فهدير آلة "الكمبري" وأنينها الفريد ممزوجة بتأوُّهات العازفين العميقة توقظ الأرواح العميقة، وهي الحالة التي تظهر جلياً عندما تجذبك هذه الموسيقى الروحية وتجعل الجسد غائباً تماماً عما نسميه بالوعي والحضور، ومن هنا جاءت تسمية "الجدبة" بالعامية المغربية؛ لتعني ذلك الرقص المسعور الذي يقوم به الجسد المرفوع والروح الراقصة.

في إحدى الليالي، كنا في عرض موسيقي خاص بمتحف "دار الصويري"؛ حيث سيحتضن ليلة "كناوية" بمشاركة الكناوي "المعلم عزوز السوداني"، وهو أحد أبناء المؤسسين لموسيقى كناوة بالصويرة. في صالة العرض لاحظت حضور جمهور لا بأس به من السياح الأجانب، خصوصاً من أوروبا، رجال وسيدات أنيقات يجلسون بالصفوف الأمامية من المسرح جاءوا باكراً ينتظرون بشغف حضور فرقة الكناوة، هؤلاء هم أحفاد "العبيد" الذين استعبدهم المستعمر ذات عصر من التاريخ، فوجدوا ملجأ للظلم والاستعباد في آلة مصنوعة يدوياً وهمهمات نابعة من أعماق الروح التي لحقها الحيف والظلم، بدأ العرض أخيراً واستمتعنا بمعزوفات كناوية عريقة كمقطوعة "لآلة عيشة الكناوية" و"لا يامنة" و"سانديا" و"يوبادي" وغيرها، وصفق الجمهور كثيراً، ووقف الأجانب بشكل متكرر، وهالتني هذه الصورة التي تعبر عن دورة في التاريخ؛ دورة انتصار الحرية، تلك الحرية التي دافع عنها هؤلاء الأحرار الذين يسمونهم بالعبيد، هؤلاء الذين كانت همهماتهم تُنعت بالحيوانية، ها هي اليوم تُعتبر من أرقى الفنون العريقة عبر العالم، وها هو الرجل الأبيض يقف إجلالاً للرجل الأسود الذي نعته ذات عهد بالعبد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد