ذهاب بلا عودة

ما أشبه الحياة بركوب القطار، تركب من مكان ما لتصل إلى آخر، مثلما تعيش لتحقق هدفاً ما، تنتقل بين المقاعد لتبحث عن مقعدك، كما تتنقل في الحياة بحثاً عن مكانك المناسب، أحياناً تمر ببطء وأحياناً أخرى تُسرع، ولكنك جالس معظم الوقت لكي لا تقع، كما تفضل الروتين الثابت في الحياة، وتخشى السقوط والارتطام، كما تخاف الخروج عن المألوف؛ لكي لا تواجه الفشل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/16 الساعة 07:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/16 الساعة 07:47 بتوقيت غرينتش

استقرت في المقعد الخلفي للسيارة قبل أن يصدر صوت الموتور معلناً بدء الحياة فيه وينطلق، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل بقليل، لقد مر الكثير من الوقت منذ أن شعرت بتلك الحرية تسري في عروقها. لم يكن هواء الليل المائل للبرودة في تلك الليلة، الذي سرعان ما اندمج مع خلايا جسدها وحده السبب في ذلك الشعور، ولكنها وأخيراً أطلقت العنان للأفكار المدفونة بأعماقها منذ مدة.

اعتادت منذ الصغر أن تكون كالصندوق المغلق بإحكام، تستمع بإنصات للآخرين، تمتص غضبهم، تحتويهم، تكتمُ أسرارهم وتساندهم ما استطاعت، وفي المقابل لم تكن تحصل على الكثير، فهي لم تكن تفصح بالكثير عن ذاتها، لم تكن أبداً ممن يطلقون عليهم "كتاباً مفتوحاً" أمام من يعرفها، وقد أضفى غموضها لشخصيتها رونقاً خاصاً، حاول الكثيرون اقتحام عالمها، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، بينما كان البعض يحظى بالدخول إلى بعض الأماكن المجهولة، وسرعان ما يخرج منها، فيرتفع ذلك السور المحيط بعالمها أكثر فأكثر، جاعلاً الأمر أصعب في كل مرة على القادم بعده.

الإنسان لا يستطيع العيش بمفرده، تلك سنة الحياة، ولكنه يستطيع أن يصنع لنفسه مكاناً بداخله لا يحق لأحدهم دخوله، ليس أنانية منه، بل لأن من الصعب على معظم البشر فهمه أو التعامل مع ذاته الهشة، كانت تعلم جيداً أن البشر لا يمكن توقّع الكثير منهم، وأن عليها فقط أن تحسن الظن بخالقِها، من أكبر الأخطاء التي يقع الإنسان بها، أنه ينتظر أشياء من إنسان مثله، ثم ينتهي به الحال مصدوماً بواقع نعيش فيه، لا يحمل الكثير من المراعاة أو التقدير.

ما أشبه الحياة بركوب القطار، تركب من مكان ما لتصل إلى آخر، مثلما تعيش لتحقق هدفاً ما، تنتقل بين المقاعد لتبحث عن مقعدك، كما تتنقل في الحياة بحثاً عن مكانك المناسب، أحياناً تمر ببطء وأحياناً أخرى تُسرع، ولكنك جالس معظم الوقت لكي لا تقع، كما تفضل الروتين الثابت في الحياة، وتخشى السقوط والارتطام، كما تخاف الخروج عن المألوف؛ لكي لا تواجه الفشل.

وفي الرحلة نقابل الكثير من الأشخاص، بعض الأصدقاء، بعض الغرباء، وبعض العابرين، بعضهم يجبرك على أن تشعر بوجوده، يترك في حياتك أثراً لا يُمحى بنقائه وطيبته، في حين يعبرُ آخرون كأن لم يكونوا، فلا يتغير شيء بمرورهم، ومن المهم لبعضهم أن يرحل؛ ليمشي في الطرقات التي كان مقدراً له أن يسلكها.

منهم من يجعل رحلتك أفضل بكل المقاييس، يشد عضدك ويحتويك، منهم من يكون نعم الصديق والعون، ومنهم من يضلّلك فتصبح تائهاً وتفقد الشعور لبعض الوقت، ومنهم من لا تشعر بوجوده ولو طال، كل له دوره.

تمر بمحطات كما تمر بمواقف تكوّن طريقك في الحياة، منها الجيد ومنها السيئ ومنها العادي، تتشكل شخصيتك وكيانك في تلك الأثناء لتصنع منك إما شخصاً ناجحاً أو بلا فائدة، وكل ذلك بناءً على اختياراتك وتجاربك، ويبقى السؤال: كيف الوصول إلى نهاية الطريق بأقل الخسائر؟

لقد تعلّمت درسها جيداً، أصبحت تدرك أن الحياة مليئة بخيبات الأمل، صعوبات ستواجهها أينما ذهبت، أشخاص يوقعون بها، ولكنها مليئة بالفرص أيضاً، بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى، بأشخاص تستطيع أن تتخذهم رفقاء لرحلتها، فقط عليها أن تُحسن الاختيار، فهي حياة واحدة فقط، والذهاب بلا عودة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد