اهتمَّ علم النَّفس في الفترات الماضية بدراسة المشكلات النفسيَّة، وتصنيف الأمراض النفسية، وكانت الأبحاث والدراسات تسجل كل ما يُعد انحرافاً عن السواء، بل كان هنالك فرع كامل يسمى علم نفس الشواذ، يُعنى بدراسة الانحرافات النفسيَّة، التي تخالف ما سُمي بالسواء النفسي، الذي لم يكن واضح المعالم إلَّا في ما يتعلق بأنه السلوك الشائع اجتماعيّاً والمقبول والمتعارف عليه من الغالبيَّة بأنه السلوك السوي، ومضى علم النَّفس على هذا طوال العقود الماضية.
لكن هذه المفاهيم تغيَّرَت كثيراً في الفترة الأخيرة، وظهرَت اتجاهات كثيرة عُرف بعضها بعلم النفس الإيجابي، التي تبحث في عوامل وأسباب الشعور بالارتياح في الحياة، وكيف يمكن للإنسان أن يحقِّق أقصى استفادة لتحقيق عوامل السلامة النفسية.
ومعنى هذا أننا انتقلنا من البحث عن الأمراض النفسيَّة والعِلل السلوكيَّة لتجنبها، وأخذنا في التركيز على أصول السَّلامة النفسيَّة لتعزيزها، ونتيجة لهذا فسنتجنَّب الوقوع في الأمراض النفسية بتركيزنا على الجانب الإيجابي من الحياة.
وتعدُّ هذه من أكبر ميزات عِلم النفس الإيجابي، أنْ قام بنَقل طريقة التفكير والحياة من الجانب المرَضي إلى الجانب الإيجابي في الحياة، الذي يساعدنا على الاستمتاع بالحياة، والاستفادةِ منها كفرصة، بما يساعدنا على تَحقيق الصحَّة العامة والسعادة.
ومقتضى هذا أن يتمَّ التركيز على جميع جوانب الحياة وأبعادِ الشخصية (الاجتماعية – والجسدية – والنفسيَّة – والعقلية)، كما يتم توظيف الجوانب البيئيَّة بما يخدم توازنها وتناغمها.
وقد حدَّد بعض الباحثين ستة معايير لتحقيق السلامة النفسيَّة، هي كالتالي:
1- قَبول الذَّات: ويعني أن تتبنَّى توجهاً إيجابيّاً حول ذاتك، وتتقبَّلها كما هي، وتقدِّر مواطن القوة لديك، وتعترف بمواطن الضعف، وتتقبَّل تجارِبك السابقة، وتستفيد منها دون أن يتسلَّط عليك لوم الذات.
2- العلاقات الإيجابية: وتعني قدرتك على تكوين علاقات ودِّية قائمة على الثِّقة، والقدرة على التعاطف مع الآخرين، ومراعاة سلامة الآخرين.
3- الاستقلالية: وتعني أن يدير المرءُ حياته وَفق قِيَمه وقراراته، وليس استجابة لضغوط الآخرين.
4- الإحساس بالهدف: الإنسان الذي لديه إحساس بهدَفه يعني أن له هدفاً واضحاً وقِيماً يعيش لتحقيقها، ونتيجة لذلك يَشعر بأن لحياته معنًى وأسباباً يعيش من أجلها.
5- تنمية الذات: الإنسان الذي يَعيش تجربة التنمية الذاتيَّة هو شخص يهتم بالحياة والتعلُّم، ويريد أن ينمو ويتطوَّر، وهو منفتِح على تجارب جديدة في الحياة، ويعمل دائماً على التحسُّن في سلوكه ومهاراته، ومعارفه وتوجُّهاته.
6- تعديل البيئة: وفيه يشعر الإنسان بالتوافق مع البيئة مِن حوله، ويسعى لتعديلها بما يتوافَق مع أهدافه وقِيَمه، ويتكيَّف معها بشكل مناسب.
وكلَّما استطاع الإنسان أن يحقِّق هذه المعايير، اقترب أكثر من تَحقيق السعادة والطُّمأنينة النفسيَّة؛ إذ لا يمكن أن تنسب تحقيق السعادة إلى جانبٍ واحد، بل هو نتيجة تضافر عدد من المكونات، منها أن يعرف الإنسان قيمتَه، ولماذا يعيش.. وكيف يتعامل مع ما حوله من مكونات اجتماعيَّة أو بيئية.. وكيف يعمل على الرقي بذاته، والزيادة في كمالاته وخبراته.. وشعوره بأنَّه صاحب قرار، وليس تابعاً ذليلاً لغيره..
وغني عن الذِّكر أنَّ أكمل إنسان يمكن أن يُستفاد منه لتحقيق كل ذلك، وما هو أعلى منه من الكمالات الإنسانيَّة، هو نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.