كلما دار الزمن دورته لاح في الأفق هلال شهر ذي الحجة.. يبشرنا كما في كل عام بأن موسم المغفرة ورفع الدرجات قد أتى، فترى الاستعداد لاستقباله يجري على قدم وساق، يشهد لذلك الجموع الملتهبة شوقاً لأداء مناسك الحج والعمرة، تريد أن تكحّل عيونها برؤية الكعبة المشرفة وزيارة مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فسعت إليهما من كل حدب وصوب ومن كل فجّ عميق.
والمقصد الأعظم بالحج هو أن تحج القلوب والأرواح، وأن تحج العقول أيضاً مع حج الأبدان بطبيعة الحال، فتكمن هنا قيمة المشروع الروحي في تعديل السلوك الإنساني من خلال سفر القلوب وترحالها من مألوف الأخلاق إلى محاسنها، ومن غفلة القلب إلى يقظته، ومن القلق والتوتر إلى الاطمئنان والثبات، إذ يترقى الوجدان وتنتعش الروح في مدارج الكمال والجمال ليصبح المرء أكثر قربًا من خالقه، ومن ثم أكثر فائدة تعمير في الأرض.
في مَلكوت ربي تطُوف روحي
أصل الطواف، السفر الوجداني إلى مدارج الحقيقة الروحية، طواف يُسفر عن معدن الإنسان، ويسير به نحو نوع من الترقي في عالم الحقائق.
بداية الطواف تجدد في الأعماق؛ لأن الحياة تبدأ من أعماق نفس متجددة، بانبعاث من الداخل، ففي العمق تكمن القوة والحقائق وإمكانات الارتقاء والأعمار.
يقول مالك بن نبي: "لا تسأل عن الجديد في عالم الأشياء، حاجتنا الأساسية في عالم النفوس أكثر منها في عالم الأشياء. إن حاجاتنا الأولى هي الإنسان الجديد".
أجمل الطواف، كل هذا المد الزاخر من حولنا للحياة أصلها ومصدرها الروح التي تطوف مسافرة، في الكون كعبة الله الكبرى طواف في ملكوته فكراً ورغبةً وانفعالاً؛ لأن الطواف في كون الله سر الأسرار باب تخرج منه الأنانية، فتودع الأنا صاحبها وتبقى النية.
وتستمر الحكاية بسفر الروح إلى الله، حيث الأمان والاطمئنان ففي مدارج الصعود إلى الله يعتدل السلوك وعند صفا الروح يبدأ الإنسان الخليفة تعمير الأرض.
وقوف البدن وسفر الروح
لا تتوقف أنت أثناء الطواف في البحث عن ارتقاء النفس في موطن التخلية منها والتحلية بأضدادها، فإن الحياة لا تتوقف كما يصفها قطب "الشمس تطلع والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور والحياة تنبثق من هنا ومن هناك".
لا تتوقف، إلا وقوفاً بعرفات الله؛ لأن الواقف بعرفة حركة صعود الى الله، حيث تبوح بمشهدها الروحاني في أسرار الحج لكي يعلم الخاص والعام أن تعاليم الإسلام فوق مستوى العقول والأفهام ولتقوم الحجة على أن أحكام الكبير المتعال تنطوي على معاني ليس لها نهاية؛ لأن الأمر على قدر الآمر "الحجة عرفة"، يقول ابن الجوزي: "غوص السابح في طلب الدرر صعود"، ووقوف الجسد بعرفة هو حركة الى الله، وصعود من ثقلِ الأرضِ بروحٍ إلى السماء سعياً لنيل الرضا والآمال.
أيتها الروح الواقف جسدها في عرفات الله إذا نامتْ عينك وتوقف الجسد فلا تنام عيون القلب، فأنتِ السّراج، فإذا نقص زيتُ سراجك فخذ من وقوفكِ بعرفة إيماناً جديداً وانطلق، فإن الحياة لا تتوقف.
الشوقُ في صَدْرِي يَحجُّ
أيها الملبي الطائف الواقف الساعي للرضا الله، رحلة الحج تعلمك بأن الحياة الحقة هي حياة الروح لا حياة البدن، وأن الروح هي التي تستحق أن تبحث لها عن السعادة والصفاء وإن مصدرَ قوتك هو إيمانُك الصّادق بالله، ومنبع ثقتك بنفسك هو ثقتُك بالله، فإذا آمنت بهِ حقاً أذكى فيك الإيمان نور القوة الكاملة، فقد حجت أجساد الكثيرين قبلك ولم تحج أرواحهم، والبعض حال بينهم وبين الحج ظروف المكان والزمان والعجز، ولكنهم لبوا وطافوا وسعوا بقلوبهم لله عز وجل، هذا معنى إيجابي، معنى الارتباط بين الروح وخالقها، ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ "فمن قوة الله الحي تنبثق الحياة وتنداح"، بل هو جزء من أسرار الألوهية. فهم يعلمون يقيناً أن الحج "لِمَنِ اسْتَطاع"، لا بأس عليهم حين يعلمون أن الشريعةَ ما جاءت إلا لرفع الحرج عن الناس.
يقول ابن رجب: "من لم يستطع الوصول للبيت لأنه منة بعيد فليقصد رب البيت فإنه قريب".
أيها الحجاج إلى الله بأرواحهم وقلوبهم وأجسادهم.. اذهبوا مغفوراً لكم، ارجعوا مغفوراً لكم.
"لبيك اللهم لبيك، لبيك".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.