قد يكون من الطبيعي أن تتآكل الذاكرة عبر دورة الحياة الطبيعية، وتتضاءل تلك المساحة المتاحة للمزيد من الذكريات لتضج الذاكرة يوماً ما ويطفح كيل الذكريات عبر رسالة تنبيه قصيرة المدى وعميقة الأثر بأن الذاكرة" غير متاحة".
ولا ينطبق هذا الكلام على هؤلاء ممن رحم ربي من الأشخاص الذين منّ الله عليهم بذاكرة حديدية لا تنفك عن اجتراع المزيد حتى يصبح حاملها ككتاب تاريخ لا قرار له!
شخصياً أعتبر ذاكرتي مثقوبة وكأن المعلومات تدخل من أذنٍ لتلفظها الأخرى على كل منحدر زمني، ذاك المنحدر نفسه الذي لم تتعثر به تلك الجدة السبعينية وإن نال الزمان من تفاصيل كثيرة على جسدها المنهك، لكنه لم يعبث قط بمقتنياتها الثمينة التي ترتبها بإتقانٍ تامٍ على رفوف منظمة بعناية لافتة داخل ذاكرة تأبى أن تضع رأسها على وسادة.
قد يدخل هذا الموضوع تحديداً في بند الفروقات الشخصية الذي لا يمنع أن هناك قضية مشابهة تخرج من قوقعة الشخصنة نحو توجهٍ قد يكون عاماً وشاملاً لجيل برمته، فبعكس الجسد فإن ضغط الحياة عموماً وصعوبتها في نواحٍ كثيرة وغياب التكنولوجيا آنذاك لم يمنح الذاكرة سوى شباب أطول، فهي قد تشبه في عملها تلك الأجهزة التي تدوم فاعليتها بكثرة استخدامها وأكثر ما يضرها السبات الطويل أو حتى المتقطع!
حالياً لدينا ذاكرة إلكترونية لا محدودة التخزين وضخمة جداً من حيث المحتوى يوفرها لك أي جهاز إلكتروني مَعد للتواصل عبر الشبكة العنكبوتية وحتى مجرد وجود" مفكرة "في هاتفك المحمول، فهذا بحد ذاته يغنيك عن محاولة تذكر تاريخ اليوم، ولست بحاجة أيضاً لتكرار قراءة كتاب ما ليرسخ في الذهن طالما أن هناك ما سيعيده لك بأي لحظة!
ليست هذه بالمشكلة الكبيرة حقاً ما دمت تجيد توظيف هذه الخصائص المميزة، ولكن شيئاً ما من التشتت الفكري ينخر على ما يبدو في الجسد العام لمستخدمي هذه التكنولوجيا بكل أشكالها خصوصاً تلك المندرجة تحت مظلة التواصل الاجتماعي.
إن عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يفوق 2 مليار مستخدم، بينما لا نحتاج لأي رقم يوضح مدى إدمان الشباب اليوم على هذه المواقع، والتي باتت تمتص معظم وقتنا لتمنعنا في أحيان كثيرة وبشكل غير مبرمج ومقرر عن ممارسة مهام ذات أهمية في حياتنا اليومية.
أذكر عندما كنا صغاراً ونشاهد التلفاز خصوصاً مع بدء بث قنوات الأطفال التي تبث طوال اليوم، أننا وعند انقطاع التيار الكهربائي فإن أول ما نقوم به هو فتح الحقيبة المدرسية خلال النهار والبحث عن واجبات معلقة ودروس مؤجلة والتفنن في الترتيب والتمحيص وقراءة القصص وغيره! وفي الليل قصة أخرى من الألعاب الجماعية المشتركة وقد يتعداه إلى البدء في أعمال يدوية بسيطة!
تجربة الطالب اليمني "عزالدين عارف" التي عرضها عبر قناته على اليوتيوب والمتلخصة بهجر هاتفه الذكي مستبدلاً إياه بآخر للمكالمات فقط ودونما استخدام للإنترنت لمدة أسبوع كامل كانت واحدة من التجارب اللافتة حقاً والتي قام بها كنتيجة لعشر ساعات يومياً يقضيها مستخدماً هاتفه الذكي بحسب ما تبين له من خلال تطبيق يحتسب لك عدد الساعات التي قضيتها في استخدام الهاتف.
وبعيداً عن مخرجات التجربة الإيجابية والكثيرة فقد لفت انتباهي أمران هما: قراءة الكتب بحيث استطاع أن يقرأ أكثر من 80 صفحة خلال أسبوع وفقاً للوقت المتاح له، والأمر الآخر هو باعتماده على ذاكرته البشرية في تحديد الأماكن دون استخدام لـ"GPS"، وهذه وحدها تدريب مجاني للتذكر والتركيز في نفس الوقت.
وبحسب إحصاءات جوجل، فإن عدد مستخدمي الموقع ارتفع من 9800 عام 1998 لأكثر من 1.17 مليار مستخدم، إذ إن هناك 1.2 تريليون عملية بحث يومياً، هذا دونما احتساب لمستخدمي مواقع البحث الأخرى التي لها شهرتها أيضاً، الرقم بالفعل خيالي واعتمادنا الكلي على هذا الرفيق اللطيف أشاح بالذاكرة الدسمة ذات الأمد الطويل بعيداً لتحل محلها ذاكرة آنية تقتات على الفتات من المعلومات.
ومن جديد، فالذاكرة وحدها ليست الأهم فربما وبحسب فريدريك نيتشه فإنك تستطيع بذاكرتك الضعيفة أن تتمتع بالأشياء الجيدة عدة مرات لأول مرة، وإن كنت تقرأ لأحلام مستغانمي فهي تنصح بعدم أخذ الذاكرة على محمل الجد علاجاً لأوجاع القلب!
لا تنكمش إذا سمعت أن الإنترنت سيجعلك غبياً! الدراسات تقول ذلك والواقع يمنحك البرهان، وهذا لا يعني بالضرورة أنه قد لا يجعلك أكثر ذكاء، إذ إن الموضوع لا يتعدى كونه توليفة لطيفة وبسيطة عبر عنها الفيلسوف الروماني سينيكا في عبارته الشهيرة " To be everywhere is to be nowhere ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.