لا ينذر الاختبار النووي الخامس لكوريا الشمالية بسوء فقط لدلالته على تزايد القدرة النووية للبلاد، بل لأنه يفتح الطريق أيضاً أمام تطوير الصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية إلى منتصف العالم، مهددة بذلك واشنطن ونيويورك.
هرعت الدولة العدائية المنعزلة إلى إتقان صنع صواريخ تمتاز بالسرعة والخفة وصغر الحجم، بالإضافة إلى التقدم المذهل، وفقاً لمحللين ومسؤولين عسكريين. وتمكنت بيونغ يانغ من اختبار بعض هذه الصواريخ بنجاح على مدار الربيع والخريف من هذا العام، بعدما مُنيت الجهود السابقة بالفشل أو الإخفاق، وفقاً لما نشرته صحيفة New York Times الأميركية.
وقال جون شيلينغ، مهندس الطيران والخبير في البرنامج الصاروخي لكوريا الجنوبية، في المقابلة التي أجراها أمس الجمعة: "لقد زاد نشاط اختباراتهم، مفتخرين بقدراتهم، وموضحين لنا صور الاختبارات الأرضية التي كان بإمكانهم إخفاؤها. وهو ما لا يمكن تجاهله بعد الآن، وسيمثل أولوية قصوى للرئيس القادم".
ويرى الخبراء العسكريون أنه بحلول عام 2020، من المرجح أن يكون لدى بيونغ يانغ المهارات اللازمة لصنع صاروخ باليستي عابر للقارات قادر على حمل رأس نووي. كما يتوقعون أنه بحلول ذلك الوقت ستكون كوريا الشمالية قد راكمت ما يكفي من المواد النووية لصنع 100 رأس حربي.
تحولت لقوة مقاتلة
كما قال سيجفريد س. هاكر، الأستاذ بجامعة ستانفورد الذي سافر لكوريا الشمالية وأدار مختبر لوس ألاموس للأسلحة، مهد القنبلة الذرية، في نيو مكسيكو من قبل: "إن تقدم كوريا الشمالية النووي والصاروخي يشير إلى أنها تحولت من رؤية الأسلحة غير التقليدية كورقة مساومة إلى رؤية حاجتها إلى الأسلحة النووية كقوة مقاتلة".
وحذر تقرير صادر من البنتاغون في مطلع هذا العام الكونغرس من أن أحد صواريخ بيونغ يانع الحديثة سيكون قادراً "على الوصول إلى الولايات المتحدة" إذا نجحت صناعته.
أدلى المسؤولون الأميركيون بالمزيد من التفاصيل في شهادتهم أمام الكونغرس. ويعتقد خبراء الاستخبارات أن بإمكان كوريا الشمالية تصغير السلاح النووي ووضعه على رأس صاروخي وإطلاقة نحو الولايات المتحدة، على الرغم من أن احتمالات نجاح الهجوم النووي تعتبر ضئيلة.
كما عبر الأدميرال صامويل ج. لوكلير، قائد القوات الأميركية في المحيط الهادي، عن مخاوف عميقة أثناء حديثه أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ العام الماضي قائلاً: "تشير كل الدلائل إلى أن علينا الاستعداد للدفاع عن وطننا".
تابع المحللون ومسؤولي الاستخبارات في الولايات المتحدة التقدم الكوري الشمالي في السنوات الأخيرة، عن طريق دراسة صور الأقمار الصناعية القادمة من كوريا الشمالية بعناية، وفحص صور عدد الاختبارات المتزايد لإطلاق الصواريخ واختبار المحركات. يتتبع الخبراء مدى وسرعة الصواريخ، ولون أعمدتها، كما أفاد محللون بأن بعض أعمدة الصواريخ أضحت أكثر نظافة مما يدل على نجاح استخدام مواد دافعة أكثر تقدماً.
خبرة روسية
كوريا الشمالية هي بلد فقير بُني برنامج صواريخها المتطور باستخدام التكنولوجيا الروسية التي تعود لحقبة الحرب الباردة، وكذلك بخبرة المهندسين الروس الذين انتقلوا إلى هناك في بدايات التسعينات باحثين عن عمل مربح بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كما يقول خبراء الصواريخ ومُحللو الاستخبارات.
وافتتح الاتحاد السوفييتي، على الرغم من فقر السلع الاستهلاكية فيه، عصر الفضاء بالتجارب الأولى الرائعة. في النهاية، لحقت به الولايات المتحدة وفازت بالسباق، بهبوط رواد فضائها على سطح القمر. وكما اتضح، كانت محركات الصواريخ الروسية أكثر ابتكاراً بكثير من تلك التي استخدمها الأميركيون.
لاحظ جيفري لويس المتخصص في شؤون كوريا الشمالية في معهد ميدلبري للدراسات الدولية في مونتيري في ولاية كاليفورنيا، مؤخراً الآثار السلبية لتجربة إطلاق صاروخ على الأرض، التي شهدت بداية انطلاق محرك جديد قوي.
كتب في مدونته: "هذا يعني أنه بدلاً من إصابة الساحل الغربي ببساطة، فربما يصل الصاروخ الباليستي العابر للقارات التابع لكوريا الشمالية إلى أهداف داخل الولايات المتحدة، من ضمنها واشنطن العاصمة".
حصلت بيونغ يانغ على أول موجاتها من تكنولوجيا الصواريخ الروسية في الثمانينات، ما أعطاها القدرة على صنع صواريخ سكود وصواريخ قصيرة المدى بمحركات تحرق الكيروسين وتُصدر الدخان. بعد ذلك، أدى انهيار صناعة الصواريخ السوفيتية إلى حصول كوريا الشمالية على موجة ثانية من تكنولوجيا أكثر فعالية بكثير.
بدأ الانهيار في وقت متأخر من الحرب الباردة إذ أدت اتفاقيات الأسلحة إلى تخفيض نفقات القوة النووية لكل من الاتحاد السوفيتي وأميركا. وتسارع عندما أصبحت روسيا غير قادرة على إنشاء صناعة خاصة لوضع الأقمار الصناعية التجارية في الفضاء. وسرعان ما بدأ مُصممو الصواريخ الروس الفقراء يهربون من روسيا.
في إحدى الحوادث في أواخر عام 1992، أوقف المسؤولون في مطار موسكو مجموعة من 20 خبير صواريخ تقريباً، مع زوجاتهم وأطفالهم، من السفر إلى بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية. يقول يوري بيسارابوف، أحد علماء الصواريخ: "دائماً ما كنت أعتقد أن عملنا هو الأكثر أهمية. ولكن اتضح أنه لا لزوم لنا".
ومع تولى أوباما الرئاسة في يناير/كانون الثاني عام 2009، كانت بيونغ يانغ قد نشرت المئات من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى التي استخدمت محركات من تصميم روسي، وصدرت المئات من الأسلحة المزودة برؤوس حربية تقليدية إلى عدة دول منها مصر وإيران وسوريا. وبالطبع، اشترت تلك الدول صواريخ السكود كورية الصنع.
في ذاك الوقت، كانت كوريا الشمالية تطور جيلاً جديداً من الصواريخ التي تعمل بمحركات أكثر تطوراً بكثير. وكان محللو الاستخبارات الغربيون قلقين من اكتشاف أن المحرك الجديد مُستمد من R-27، وهو صاروخ مدمج صنع من أجل الغواصات السوفيتية التي كانت تحمل رؤوساً حربية نووية. وكان صانعه هو مكتب تصميم Makeyev، وهو مجمع صناعي في جبال الأورال اعتُقل خبراؤه في مطار موسكو.
تطور صناعة الصواريخ
ازدادت حرارة المحرك وقوة دفعه ومداه، متجاوزاً محرك سكود. وكانت مواده الدافعة أكثر قوة من وقود الكيروسين القديم. كانت عبارة عن وقود ذاتي الاشتعال. وهو ما يعني أن امتزاج المكونات ببعضها ينتج عنه انفجارات قوية تلقائياً، مما جعل الكيروسين المدخن يبدو قديماً.
طوِّر المحرك لتشغيل صاروخ جديد يُعرف باسم موسودان، وسُمي على اسم موقع الإطلاق الرئيسي في بيونغ يانغ. وتتحول الدفعة الأكبر لمحركه إلى مدى أوسع. حذر المحللون من أن الرأس الحربي للصاروخ قد يطير لما يصل إلى 2400 ميل – أي بعيداً بما فيه الكفاية لضرب القاعدة الأميركية في جوام، ولكن أقل من الحد الأدنى للنطاق العابر للقارات الذي يصل لـ3400 ميل.
وفي عرض عسكري أواخر 2010، كشفت بيونغ يانغ عن نتائج R-27، وأعطت معنى لسنوات من تحذيرات الاستخبارات الأميركية. اتضح أن عرض صاروخ موسودان يبلغ 5 أقدام وطوله يبلغ 40 قدماً، وهو صغير بشكل ملحوظ مقارنة بالصواريخ الكبيرة لكوريا الشمالية، التي يراها المحللون العسكريون صيداً سهلاً.
نُقلت الصواريخ الصغيرة التي عُرضت ذلك اليوم على متن شاحنات ويمكن أن تنقلها العربات على طرق البلاد من خلال مناطق الغابات أو الاحتفاظ بها في الأنفاق، ما يجعل إخفاءها سهلاً، ويجعل من الصعب العثور عليها وتدميرها.
استخدمت بيونغ يانغ كذلك تصميم محرك R-27، كبنية لصنع الصواريخ المدمجة التي يمكنها إطلاق رؤوس حربية عابرة للقارات.
وكان صاروخ KN-08 يعمل بمحركين متطورين. وقال المحللون إن مداه عابر للقارات وقد يُرسل رأساً حربياً ليصيب الساحل الغربي لأميركا. أما صاروخ KN-14 وهو نسخة أطول من KN-08، فقد بدا قادراً، نظرياً، على إرسال واحدة من رؤوس بيونغ يانغ النووية لتدمير واشنطن العاصمة.
اليوم، يُنظر إلى الصاروخين KN-08 وKN-14 على أنهما الأكثر تهديداً في ترسانة كوريا الشمالية المتطورة، وخاصة بالنظر إلى الاختبار الأرضي الذي جرى في أبريل/نيسان للمحرك القوي الذي يُشغلهما.
ومع ذلك، يشير الخبراء إلى أن كوريا الشمالية لاتزال تبعد سنوات عن إطلاق صاروخ طويل المدى. على سبيل المثال، لا يزال عليها تعلُم التكنولوجيا المعقدة اللازمة لحماية الرأس النووي من الحرارة الحارقة التي تتولد أثناء دخوله الفضاء الخارجي والعودة مرة أخرى.
ولا يتوقع الخبراء قدرة كوريا الشمالية في أي وقت قريب على بناء قذيفة هيدروجينية مدمرة، قادرة على تدمير مدن كبرى.
لكن المسؤولين العسكريين مازالوا قلقين بشأن هذا اليوم.
وقال وليام جورتني قائد قوات قيادة الدفاع الجوي بأميركا الشمالية للجنة فرعية من لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ في أبريل/نيسان: "تُقيّم جمعيةُ إنتل قدرةَ كوريا الشمالية على النجاح في إطلاق صاروخ عابر للقارات بسلاح نووي، والوصول إلى أرض الوطن، بأنها منخفضة".
وأضاف أخيراً: "نعتقد أن هذا الاحتمال الضعيف سيتزايد"، وأن الولايات المتحدة ستحتاج إلى استخدام دفاعات أفضل.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.