لا يخفى على متابع للشأن العالمي، تأثير صراع النفوذ الذي تدور رحاه ميدانياً على جغرافيا الشرق الأوسط، في رفع حدة خطاب الكراهية الصادر عن الجميع، لا سيما أن هذه الصراعات باتت تغلَّف بطابع ديني أيديولوجي وطائفي في كثير من الأحيان.
ولا يعني أننا نعتبر أنفسنا -نحن المسلمين والعرب- الضحية الكبرى لهذه الصراعات، وبالتالي الطرف الأضعف الذي يوجه ضده خطاب التحريض والكراهية، ألا نعترف بأننا نحن كذلك نمارس خطاباً عدائياً غير منضبط تجاه الآخر، كردة فعل على الظلم الواقع علينا حيناً، ولسوء فهمنا وقصور تلقينا لتراثنا أحياناً أخرى.
ولعل من أهم موروثاتنا التي انحرفت فيها الأفهام وشطحت هو مصطلح "الولاء والبراء"، وهو بلا شك مصطلح أصيل أدرجته كتب العقيدة الإسلامية ومتونها كأصل من أصول الإيمان، مستخلِصةً إياه من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية المطهرة، لا سيما تلك المتون التي خطتها يد شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده الإمام محمد بن عبد الوهاب عليهما رحمة الله.
لذا فالإشكال لم يقع في المصطلح كمفهوم أصيل له وجوده وتطبيقاته المبدئية، إنما وقع في الأفهام التي تلقته بعد ذلك، وفي الشروح التي توسعت فيه حتى غلت وغالطت كما سنبين.
يأتي الحديث في الأصل عن الولاء والبراء في سياق توصيف ورسم علاقة المسلم بغيره، وماذا عليه أن يحمل من مشاعر قلبية تجاه من يخالفه ومن يوافقه في الدين والاعتقاد، فالمسلم الحق صحيح الإيمان يحب ويوالي الله ورسوله والمؤمنين؛ وهذا هو الولاء، ويبرأ في الوقت ذاته من الكفر وأهله؛ وهذا هو البراء. تلك هي النواة الأساسية التي يبدأ منها تكوّن المفهوم وما ينبني عليه، ثم تأتي التفاسير التفصيلية بعد ذلك لتنحرف شيئاً فشيئاً فتصوغ من المصطلح في النهاية خطاباً يوجب على المؤمن أن يكره ويعادي كل من خالفه في الدين، وبعضها يتوسع أكثر ليشمل العداوة والبغضاء تجاه المخالِف في المذهب والطائفة داخل الصف المسلم ذاته.
فنحن إذن أمام طرح يجعل الكره والعداء لغير المسلم بل أحياناً للمخالفين من المسلمين، واجباً في صحة الإيمان، ويذهب بعد ذلك لدرجة تحريم أن يقول المسلم لغير المسلم: يا أخي، إلا إذا ربطته به رابطة الدم، مستدلين بالآية: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [سورة الحجرات].
هذا الفهم الذي ينتهي إليه البعض بعيدٌ كل البعد عن روح الإسلام وعن صريح تشريعاته، فالحب والأخوة كما يصوغهما الإسلام درجات ومراتب، تبدأ بالأخوة الإنسانية التي تربط كل البشر بعضهم ببعض، وتنتهي بأخوة الدين التي تجعل من المسلم ﻷخيه المسلم كالبنيان المرصوص كما نص الحديث الشريف، مروراً بأخوة العشيرة والقومية والدم..
أما النصوص الشرعية التي يبني عليها أصحاب الخطاب الذي يتوسع في مفهوم البراء، ويوجب الكره والعداء لغير المسلمين بكل أصنافهم، فكلها تأتي في سياق وصف الفئة المحاربة للإسلام وأهله؛ لا لشيء إلا ﻷنهم اختاروا الإسلام ديناً لهم، كمثل الآية في سورة المائدة: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ" فالشنآن -وهو الحقد كما في معاجم اللغة- في الآية مبرَّرٌ بصد غير المسلمين لهم عن ممارسة حقهم في أداء العمرة وزيارة البيت الحرام.
وفي سورة المجادلة أيضاً نقرأ: "لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ"، هنا تتحدث الآية كذلك عن تحريم المودة لمن حادّ أي من ناصب الله ورسوله والمسلمين العداء والحرب لأجل إيمانهم؛ "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ" [سورة الحج]. فهذا الصنف الذي ابتدأ هو بالاعتداء وبنفي من آمن من أرضه وبيته، من الفطري أن يعادى وأن يكون من لوازم الإيمان الصحيح مبادلته الكره والشنآن.
أما فيما يخص نظرة الإسلام لغير المسلمين ممن قَبِل أن يكون للمسلم حقه في اختيار معتقده وممارسة دينه، فالمستقرئ لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام حيال ذلك، يرى أن نظرة المسلم لغير المسلم فيها طمع كبير وحب شغوف في هدايته وجلبه كي يكون مسلماً؛ فتلخّص الآية مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام وﻷمته من بعده بالتبع بالقول: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [سورة الأنبياء]، وكيف سيكون حامل هذه الرسالة رحمة للعالمين جميعاً ويتمنى لهم الخير في دنياهم وأخراهم، وهو يحمل تجاههم مشاعر الكراهية؟!. لقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يفرح بدخول أحدهم في الإسلام ويقول: الحمد لله الذي أنقذ بي نفساً من النار، فما هي المشاعر التي كان يحملها يا ترى تجاه تلك النفس قبل أن تسلم؟!.
وكيف يسمح الإسلام لأتباعه بالزواج من نساء أهل الكتاب -مسيحيين ويهود- ومعروف وبدهي أن علاقة الزواج علاقة قائمة على المودة؛ "وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" [سورة الروم] وهو يرى أن مودة المسلم لغير المسلم تعد خللاً في الإيمان؟!، وكيف سيقبل للولد الذي سيكون نتاج هذه العلاقة غداً أن يحب أمه وأقاربها وهم على غير دينه؟!
هذا الحب الذي ينشأ بين أفراد الجنس الواحد في مجتمعهم، ما لم يبدأ أحد مكونات هذا المجتمع بالاعتداء على الآخر وإيذائه، هو حب فطري يقره الإسلام بل يجعله جزءاً أصيلاً من تركيبة الشخصية المسلمة.
أما وصف الأخوة فهو كذلك دوائر تضيق وتتسع، فقد وصف الله نبيه هوداً بأنه أخٌ لقوم عاد مع أنهم لم يؤمنوا فقال: "وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ" [سورة الأحقاف]، فهذه أخوة العشيرة والنسب بينهم، يشبهها اليوم أخوة المواطنة التي تنشأ بين رعايا الوطن الواحد، الذين يجمعهم همّ النهوض بوطنهم والارتقاء به، ولا يتحقق هذا بين مكونات متباغضة متعادية.
لا شك أن الإسلام جعل دائرة الأخوة والمحبة فيه وبين أفراده هي أضيق دائرة وأقواها عاطفة على الإطلاق، بل جعل المحبة فيه أوثق عراه "أوثق عرى الإيمان الحب في الله" [حديث شريف]، لكنه لم يجعل الدائرة التي تليها مباشرة هي دائرة البغض كما بينّا، إنما أحاطها بدوائر أخرى فيها أخوة ومودة، تتسع وتضعف حتى تشمل دائرة من يعادون الإسلام ويحاربون أهله ويخرجونهم من ديارهم، وهؤلاء بغضهم طبيعي وقد جعله الإسلام كذلك من أوثق عراه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "أوثق عرى الإيمان؛ الحب في الله والبغض في الله".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.