لا تقتلوا الأموات

في القاهرة حيث تسير إلى مقابر الأموات لتترحم عليهم، فلن تجد هيبة الأموات، والرهبة تسيطر على المكان كما في باقي محافظات الجمهورية، فقد جاورهم الأحياء ممن ضاقت بهم الحياة ولم يجدوا ما يأوون إليه سوى أحواش الموتى، فاتخذوا منها جدراناً وأسقفاً تؤويهم من مشاكل الشارع.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/08 الساعة 07:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/08 الساعة 07:54 بتوقيت غرينتش

لم يبقَ في بلدنا شيء يمتلكه البعض لم يحسد من البعض الأخر، حتى أولئك الذين ذهبوا إلى الحياة البرزخية وسكنوا التراب حُسدوا على نومهم في مقابرهم، فزاحمهم الأحياء سكنهم ناقلين إليهم عبثية الحياة التي رحمهم الله منها.

في القاهرة حيث تسير إلى مقابر الأموات لتترحم عليهم، فلن تجد هيبة الأموات، والرهبة تسيطر على المكان كما في باقي محافظات الجمهورية، فقد جاورهم الأحياء ممن ضاقت بهم الحياة ولم يجدوا ما يأوون إليه سوى أحواش الموتى، فاتخذوا منها جدراناً وأسقفاً تؤويهم من مشاكل الشارع.

تاريخ المشكلة

إنه لمن العجب العجاب أن مشكلة سكان المقابر في القاهرة كما يحكيها التاريخ لم تكن مشكلة حديثة، بل إن المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي الذي يرجع إليه العديد من الباحثين في التاريخ لمواكبته الحملة الفرنسية، ذكر في كتابه عجائب الآثار في "التراجم والأخبار" أن نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية، هو أول من أصدر مرسوماً بإخلاء المقابر من سكانها.

وتتوالى الأحداث وتمر السنون إلى أن يأتي العدوان الثلاثي على مصر، وتأمر الحكومة المصرية وقتها بإخلاء سكان مدن القناة من منازلهم كي لا يتعرضوا للقصف المستمر، فيخرج السكان متجهين في شتى مناطق الجمهورية، فبعضهم ذهب إلى منازل أقاربهم، والبعض إلى مساكن الإيواء، والبعض الآخر ذهبوا لمرافقة الموتى وسكنوا أحواش المقابر.

ومع بداية غلاء الأسعار في مواد البناء وإيجار الوحدات السكنية وتركيز التنمية على مدينة القاهرة، وبدء الهجرة من الريف إلى المدن ظهرت المناطق العشوائية المبنية خارج الإطار الرسمي لخطة الإسكان المتبعة بمصر، لجأ البعض ممن هاجروا من الريف إلى القاهرة لسكن أحواش المقابر التي يؤجرونها من "التُّربية"، بأسعار أقل من أسعار الوحدات السكنية.

اجتماعيات سكان المقابر

إن النظام الاجتماعي المترابط والتشابك الأسري هو أول ما يبحث عنه صانعو القرار عند وضع مخططاتهم الاستراتيجية أو تنمية مجتمع ما، الأمر الذي ينعدم تماماً داخل حيز سكان المقابر، فإن مجتمع المقابر يسيطر عليه سمة الخوف والعزلة الاجتماعية، فإذا حل الليل أغلقت الأبواب وسيطرت الرهبة من الموتى وأساطير حياة الجن على الأطفال، فيزرع فيهم الخوف في سن مبكرة.

يسيطر على إدارة تلك المناطق مجموعة من "التُّربية" وهم بمثابة أصحاب الاحواش وهم من يقومون بتأجير الأحواش الذي هو عبارة عن "غرفة وأمامها فراغ به المقبرة وبها حمام" للسكان، وظل مجموعة من التُّرَبية يقودهم "المعلم" الذي هو بمثابة المنظم للقانون الداخلي بالمنطقة وحلقة الوصل بين هؤلاء السكان والجهات التنفيذية.

وكمثيلاتها من المناطق العشوائية يسيطر على تلك المناطق الجهل والفقر وتسرب الأطفال من التعليم، بسبب عدم مقدرة أولياء الأمور على مصاريف التعليم وحاجتهم إلى الدخل من عمالة الأطفال تحت سن 15 سنة.

وبحسب مؤسسات اجتماعية رصدت أن نسبة الأميين بسكان المقابر تصل إلى حوالي 64.4%، ونسبة 23.3% يرتفعون عن حد القراءة والكتابة، والشهادات الأقل من المتوسطة حوالي 6.1%، بينما نسبة 6% شهادات متوسطة وأعلى من المتوسطة، ونسبة ضئيلة جداً من الشهادات الجامعية تصل إلى 0.6%".

البيئة الممهدة للسكن بالمقابر

في بعض مناطق دفن الموتى أنشئت ما يعرف بالجزر السكانية وهي تجمعات سكانية ممتدة داخل منطقة المقابر، نتيجة تطور المناطق المجاورة لها، فبالتالي أصبحت وسائل المواصلات تدخل إلى تلك المناطق، التي تمتد بالطبع في محيط المقابر، وأن عملية تخطيط المقابر بالقاهرة هي عملية ناجحة بعض الشيء تفتقدها بعض المناطق السكنية بمصر، حيث تم تخطيط مناطق المقابر على مساحات واسعة تحتوي على فراغات كافية وروعي التدرج الهرمي في أحجام الشوارع الرئيسية والممرات مما لو أوجد في بيئة سكنية لجعلها منطقة ممتازة.

المشكلات الأمنية

إن منطقة سمتها الرئيسية العزلة الاجتماعية ويسيطر عليها الخوف والجهل والفقر لهي بيئة خصبة لانتشار الجريمة، وملجأ وحصن أمين لإقامة الهاربين والخارجين عن القانون والاتجار في المواد المخدرة وانتشار الإدمان، فإن تلك البيئة الخصبة للجريمة جعلت الخارجين عن القانون مطمئنين أثناء تنفيذ جرائهم دون الخوف من وجود أمني أو اعتراض أحد من السكان الموجودين، فانتشرت بتلك المناطق سرقة جثث الموتى والاتجار بالأعضاء، وخطف الفتيات واغتصابهن، والقتل وإخفاء جثة القتيل بإحدى المقابر الخالية، وسرقة البوابات الحديدية للأحواش.

كل هذا يحدث بالطبع خارج التواجد الأمني؛ لأن تلك المناطق هي مناطق إسكان غير رسمي، ولا توضع في حسبان المؤسسات الحكومية في أية إحصائيات رسمية صادرة من الدولة.

حل المشكلة

إن حل مشكلة مليونين ونصف المليون هم سكان المقابر بحسب إحصائيات غير رسمية تتمثل في نفس حل مشكلة الإسكان العشوائي بباقي مناطق الجمهورية، بوضع سياسة إسكان عادلة وتوفير وحدات سكنية بديلة، والخروج من وادي النيل والدلتا إلى مناطق أخرى صالحة للسكن، بعد تهيئة الظروف للعيش والعمل بها، لكن لم تُظهر أي من الحكومات السابقة سياسة واضحة في التعامل مع مناطق المقابر المكتظة ليس فقط بالموتى، بل بالأحياء المتقاسمين معهم موتهم وترابهم.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد