منذ زمن بعيد وأنا أبحث عن إعادة ترتيب أوراقي، وحياتي، ومتلازمة العمل والنجاح، وتجاوز حكمة الفيلسوف القديم الذي قال: النجاح في الحياة هو المرور من ثقب الباب الضيق.
ربما كانت الخطوة الأهم وأنا أجلس على البلاط داخل شقتي المتواضعة وبجواري ثلاثة من الأطفال أكبرهم في الصف الثاني من الدراسة المتوسطة، التي يطلق عليها في مصر الإعدادية، وأصغرهم في سنوات عمره الأولى.
توقعت ورسمت وحددت كل شيء، إلا فكرة واحدة أن تتنازل الأم عن أولادها، كنت دائماً أقول لزوجتي السابقة عندما تضج الحياة أو تضيق أو يصبح طرفا المعادلة فيها كخط القطار لن يلتقيا أبداً حتى في النهايات، علينا أن نفترق!!
وعندما أصرت على الخروج من شريط القطار، ربما تعباً، أو تخطيطاً لحياة أكثر بريقاً وراحة، وربما تجاوزاً لفكرة الزواج الأبدي الذي يبدأ مع سنوات العمر الأولى وينتهي بالشخص إلى المقبرة.
ساعدها كثيراً هذا التفتح "المعنوي" لرجل شرقي الملامح غربي التفكير، لا حياة تستمر للأبد، عندما تضيق على كل شخص أن يحدد هويته..
وكنت وقتها في بلاد الخليج، أخطط لمستقبلي المهني ومستقبل أولادي الدراسي، وفجأة طلت علىَّ زوجتي طلباً للطلاق، فكرت كثيراً، ووضعت بالورقة والقلم السلبيات والإيجابيات، واكتشفت أن السلبيات كلها أمور مادية.
في أول إجازة كانت الجلسة الأخيرة مع أطراف مقربة وقبلها جلسة مع الأولاد، ربما أرهقني كثيراً من ناحية وفتح شهيتي على القرار من ناحية أخرى، عبارة أولادي "مش فارقة أصلاً"!!
تنوعت المهارات في تحقيق الكم الأكبر من المكاسب، وأتذكر أحد أقاربي الذي قال قولاً فصلاً: من تطلب الطلاق تخرج بلا شيء!!
ولأنني كنت أحافظ على "شعرة معاوية"، ولا أريد أن أكرس ما تبقى من العمر في علاج فكرة الانفصال الأسري مع أولادي، رفضت العرف والتقاليد وقلت مفتوح الصدر والقلب، اتركوها تطلب ما تريد، الحقيقة لم تدهشني ولم تهزمني المطالب المادية والأثاث بالشقة كاملاً وشاملاً.
فقد كانت تجيد المناورات والتفاوض الجيد، وهو أحد ملامح الذكاء الاجتماعي الذي تتمتع به السيدة المصرية، وقلت في نفسي وقتها، كله يهون ويتعوض أرجع شغلي في الخليج وأعوض كل شيء مفيش أي مشكلة.
وكان آخر نقطة تفاوض "الأولاد"، ورغم ثقل العبارة، وصعوبة أن تتفاوض في جزء ونسيج منك، لكن للحقيقة كان تفاوضاً جاداً فقد رفضت كل العروض المريحة والمربحة مادياً ومعنوياً، وطالبت بعدم أخذ الأولاد.
ساعات بعدها وانتهى الطلاق وأخذت الأولاد على الشقة التي لم يعد فيها أي ملامح للحياة سوى الهزيمة وألم الحوائط والجدران والأسقف والبلاط الخالي من الحياة.. جلسنا نشد الحياة ونرسم ملامح الغد التي حتى وقتها لم يكن له أي ملامح..
مرت أكثر من ثماني سنوات وقررنا من أيام قليلة أن نعيد ترتيب البيت، نفس البيت الذي لم يغيره الزمن، لم نكن نمتلك أثاثاً جديداً، ولا حتى أسِرَّة للنوم الممنهج، ما يضمن لك حلماً صافياً، وتتقلب في المكان بعفوية.
لم ترهقني المسافات، ولم تخذلني الأماكن، بعد أن جلست ممدداً على نفس البلاط، وأتذكر الفيلسوف الذي قال: النجاح في الحياة هو المرور من ثقب الباب الضيق، الابنة الكبرى في تمهيدي ماجستير، والوسطى في الصف الثاني لنظم المعلومات، والصغير جداً على أعتاب كلية التجارة، صمت طويل وأنا أكتب كعادتي على الهواء بطفولية معتادة في الأزمات، لقد مررت من ثقب الباب الضيق!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.