ربما يتبادر إليك عزيزى القارئ من العنوان أن 358 هو مبلغ مالى أو أيام مرت أو ما إلى ذلك، وهنا أحب أن أقول لك لا، 358 هو نوع من أنواع المواصلات العامة، إذا كنت من قاطني المعادي في مصر، فبعون الخالق ستعرفه معرفة سطحية أو وطيدة، أو لا تعرفه أساساً، أياً كان هو ذلك النوع من المواصلات الذي يتبع معك نظرية "فاضل على الحلو تكة" أو نظرية "اتقل علشان تاخد حاجة نضيفة"، فهو يعطيك الفرصة لتمارس النعمة الغائبة التي تضيع في وسط الحياة المادية التي نعيش فيها نعمة التأمّل.
فهو يعطيك الفرصة وأنت جالس تنتظره أن تتأمل في الرايح والجاي والمباني وربما يرسلك بعيداً إلى أرض الذكريات لتجلس تتذكر ما فات، أو لتتفكر في ما هو آتٍ، وخاصة إن لم تكن قلقاً ولم يكن وراءك أي شيء فستجلس راضياً ومبتسماً ومتأملاً، مثلاً: في شكل قبة الجامعة المضاءة ليلاً، وساعة الجامعة التي تتحرك فيها عقارب الساعة ببطء، كأنها تنبئك أنها مرَّ عليها السنون والسنون من أيام جامعة فؤاد الأول إلى جامعة القاهرة.
ليجتذبك المعمار لأيام أفلام الأبيض والأسود، وعندما تدير وجهك لترى الواقع الذي أمامك هو موقف الميكروباصات.. إي نعم موقف الميكروباصات لنجد مجموعة من سائقي الميكروباصات يتشاحنون على "مين اللي يحمل الأول"، وركز على كلمة "هيحمل" ليه؟ هو إحنا بضاعة، لكن تقول لمين يا عم، ولينتهي الشجار بالقانون الطبيعي للحياة وهو الأقوى يفوز دائماً، يعني الأضخم، وهو من سيحمل أولاً، ولنركز على خلفية الأصوات لتجد مجموعة أغانٍ لم تسمعها من قبل، ولن تسمعها، صادرة من راديو الميكروباصات، ولكن على أية حال هي تليق بالسرعة الجنونية التي يقودون بها.
ثم تلتفت لتجد هذا الرجل الذي يقف مرتدياً قميصاً "كاروهات" واتساع المربعات يوحي بأن الرجل ذو تجارب عميقة، ولكن عينيه تحملان الكثير من الهموم، ويده تحمل حملاً مناسباً "كيس أسود يبدو أن به فاكهة أو ما شابه أتى به لأم العيال، والعيال عشان يفرحوا، ولكن يقطع هذا السيل من التأمل صوت الرجل الخافت: "جيزة يا أسطى" ليجيب الأسطى: "إن شاء الله"، ثم يا فرج الله، تلوح في الأفق حافلة تشبه 358 ترى هل هو هو؟!
أيون طلع هو 385 على غير العادة، لم يتبع 358 النظريات السالف ذكرها، والتي يتبعها في كل مرة، وأتى سريعاً هذه المرة.
وهنا بدأت رحلة أخرى وهي البحث عن الكرسي، والشهادة الله، والحمد لله 385 لم يكن يوماً زحمة، ولكني أحب أن أجلس بجوار النافذة وأجلس حقيبتي على الكرسي المجاور، يعني أبحث عن كرسيين ناحية اليمين، وطبعاً دلوقتي بتسأل إشمعنى اليمين؟!
طب كرسين وفهمنا لكن ناحية اليمين لماذا؟ والإجابة ببساطة الناحية اليمين هي الناحية التي تطل على النيل طوال الطريق، وأنا أقترح عمل سعر خاص لها، بما أن الجميع يجلس على هذه الناحية، ويترك الناحية الأخرى شبه خاوية.. وبدأت عيناي تدوران كالرادار، بحثاً عن كرسي، الحمد لله، وجدت كرسياً بهذه المواصفات في آخر الحافلة، ولكن ما من مشكلة أهو أحسن من مفيش بردو، جلست وبدأت أكمل التأمل في الحياة لأسرح في النيل واتساعه وامتداده الذي كلما نظرت إليه شعرت بالراحة؛ لأنه الشيء الوحيد الذي ما زال متسعاً وخاوياً ولم تطله الزحمة بعد، بعد أن طالت جميع شوارع القاهرة، فالمراكب قليلة في النيل وليست كثيرة، فمهنة الصيد أوشكت على الانقراض، ولكن هذا الصياد الواقف في مركبه، ويهم برمي الشباك في النيل بمساعدة ابنه الصغير الذي لا يتعدى 7 سنوات، فلقد آثر ألا تنقرض، ويحاول جاهداً أن يعلمها لابنه لعلها تنفعه يوماً ما.
مشهد جميل يحتاج إلى ريشة فنان مبدع؛ ليترجمها إلى لوحة، فالشمس تميل إلى الاحمرار، وتهم بالنزول إلى النيل؛ لتغيب لبضع ساعات، وتعود غداً ثانية.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.