أذكر ذلك اليوم الذي حضر فيه أبي إحدى جلساتك التي كنت حريصاً على إقامتها دوماً مساء كل جمعة بكازينو قصر النيل، كان في عام 1992، وكان عمري وقتذاك سبع سنوات.
ظل والدي طول الطريق يحدثني عنك، وعن أعمالك الخالدة، حقن في أوردتي معلومات شتى عن حياتك، فأصبحت تجري في دمي منذ ذلك الوقت، أذكر جيداً يا سيدي هذا اليوم الذي رأيتك فيه وجهاً لوجه، ولم أنسَ قط حينما صافحتك والتقت عيني بعينيك، وأخبرك والدي أنني أحبك، فقبَّلتني وقلت لي: "شد حيلك عشان تكون كاتب كبير"، فهززت لك رأسي وقد اشتعلت وجنتاي خجلاً!
رغم الزحام الشديد الذي كان حولك لكنني لم أجد منك لهم إلا كل ترحاب، وكنت أسمع حوارات جانبية عنك أنك طيب المعشر… وقد لمست ذلك.
كبرتُ وكبر معي حبي لك، وقرأت أعمالك مبكراً… فآخر رواية قرأتها لك لم أكن أتممت الخامسة عشرة آنذاك، وكان لأعمالك السبب الأول في حبي للكتابة، وخلق شخوص وحيوات، وترجمة ذلك لأحرف فكلمات وعبارات. تنامى معي ذلك الشعور الذي كثيراً ما ينتابني، وهو أن أكون يوماً ما مثلك، رغم أنني أعي تماماً أن الأديب نجيب محفوظ لم ولن يتكرر قط.
طالما قضيت الليل أفكر فيما قرأته من أعمالك، الأمر الذي جعلني حريصاً كل الحرص على أن أرى الأفلام المأخوذة عن قصصك ورواياتك، وكنت أتساءل في قرارة نفسي، ما هو شعورك حينما تشاهد شخوصك تتحرك أمامك؟ وجدته شعوراً عظيماً، وأحببت الكتابة أكثر وأكثر، وتعلَّمت منك المفردات الجديدة، والتعابير والألفاظ، وبدأت بالكتابة عن الشارع والمنطقة التي أسكن فيها، بالتزامن مع متابعتي لأخبارك أولاً بأول، لدرجة أنه حينما وصلنا خبر محاولة اغتيالك في اليوم المشؤوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1994، سكن بيتنا الحزن لفترة طويلة، واعترانا القلق واللهفة عليك، وكنا نتابع حالتك عبر التلفاز أولاً بأول… وأذكر جيداً ذلك اليوم، انزويت إلى أحد أركان غرفتي وبكيت حتى غبت في سباتٍ عميق.
مع الوقت زاد فضولي أكثر عن العالم الذي كنت تكتب عنه، وبسببك أحببت الحارة المصرية والمنطقة التي ولدت فيها وترعرعت، ألا وهي "الجمالية" وما حولها، ذهبت إلى هذه المنطقة وكنت أنظر إلى الأرض والمساكن والمباني والمقاهي، أهذه الأرض وطأتها قدمك يوماً ما؟!! أهذا المقهى جلست فيه بإحدى الليالي؟ ترى أي كرسي نال شرف جلوسك عليه؟… أي ركن انتبذته لتكتب وتبدع؟
في مرحلة الثانوية العامة، حاولت رؤيتك مرة أخرى، فكنت أعلم خط سيرك اليومي من منزلك بالعجوزة إلى ميدان التحرير ماراً لنهر النيل موازياً في السير له، لكنني لم أكن أعرف مواعيدك بالضبط، فكنت أكتفي بالمشي على نفس خط السير الذي كنت تتخذه، إلى أن رأيتك بعد شهور، خشيت أن أصافحك وبعد تردد كبير أزاحت يد الشجاعة ستار الخجل لدي واستوقفتك لأصافحك، فلم أجد منك إلا كل ترحاب، فشكراً أيها الأديب الأب، شكراً على كل شيء، أوله وأعظمه هو وجودك معنا، حياً أو ميتاً.
فوالذي نفسي بيده، أنني أتنفس رحيق حروفك وعباراتك، وأحفظها عن ظهر قلب، بين ثنايا صفحاتك جلست مع المعلم كرشة، وحسن نجله، تمشيت مع حميدة من زقاق المدق مروراً بحارة الصنادقية فشارع الأزهر، وافتتنت بحسنها الذي رسمته بقلمك فرأيته بأم عيني.
عشت مع كل أبطالك، شممت رائحة شارع المعز فسكن قلبي وأصبحت أتردد عليه الآن، وقد أصبحت كاتباً يتلمس خطواته الأولى حابياً، علَّني أن أصبح كما أخبرتني يوماً ما.
أقسم لك أيها الأديب العالمي أنك لم تمت، فأنت بيننا تحيا، بحروفك… بكلماتك… بعباراتك… وأعمالك الخالدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.