لماذا أصبح الليلُ زائراً ثقيلاً إلى هذا الحد؟! لماذا لا تتصارعُ الهموم والأوجاعُ في رأسك إلا ليلاً؟! لماذا تتزاحم أحداث يومكِ جميعها، وكل ما طالعته من أخبار سيئة قبل أن تخلد إلى النوم؟!
إنها مأساةٌ يومية! خاصةً وأن العالم يزداد قبحاً وسوءاً كل يوم! وتتراكم الهموم على ظهورنا كالجبالِ، نحاولُ أن ننحيها جانباً كل صباحٍ لنرسم بسمة نبدأُ بها يومنا، لكنها لا تلبث أن تعود ليلاً، فهي تعرف طريقها جيداً!
ماذا وإن كانت ظهورنا لا تقوى على الاحتمال؟! ماذا وإن كان ما يحدث حولنا يسلب من أرواحنا وقواتنا؟ من أين نستلهمُ الأمل وسط هذا العبث؟! نطالعُ الأخبار يومياً فتزداد أحمالنا، لقد صارت أوطاننا جدَّ قاسية!
كنتُ قد تصالحتُ منذ فترةٍ ليست ببعيدةٍ مع حياتي، بدون أن أعرف شيئاً عن أحوالِ بلدي، لأنني وكأي مغتربةٍ يؤلمني سوء أحوالها كثيراً ويُنغِّصُ عليّ يومي! من قال إننا لا نحبُ بلادنا؟! إننا نحبها، بل ونحبها جداً، لكنها هي من بدأت بالكراهية! وطنٌ لا يكفلُ لي أي مقوماتٍ لحياة سوية، ماذا عساي أن أفعلَ حياله؟ هل أختار البقاء أم ألوذ بالفرار؟! لهذا بعُدْنا يا بلادنا، فسامحينا..
يعلم الله أننا ما قسونا، لكننا اخترنا الحياة! يتغنى الناس دوماً بأن يحيا الوطن، ودوماً ما نسألهم، لماذا لا يحيا الوطنُ والمواطنُ سوياً؟! إن حياتنا هي ما تُحيي الأوطان يا سادة! لا نسمع منهم إلا صمتاً! يبدو أن ذلكَ غيرُ جائزٍ في بلادنا! يبدو أن القاعدةَ هنا على غرارِ ذلك الهتاف في الفيلم الكوميدي الشهير "يعيش الوطن واحنا مش مهم"!!
متى سنعودُ يا بلادي؟ متى تنصلحُ الأحوال؟ هل ستنصلح الأحوال أصلاً أم أن هذا محضُ هراء؟!
كل هذا يدور في رأسكَ ليلاً وليلاً فقط! تحاولُ أن تُخمدَ حنينك إلى أهلك ووطنك، أن تُخرجَ هذه الأفكار والتساؤلات من رأسكَ فلا تستطيع! بل إنها تستجلبُ بعضها البعض، وتستجلبُ ما هو أشدُ منها هماً!
اسمها "آية"، ذكية جداً ولماحة! كانت أولُ من تعاملت معه من هؤلاء الأطفال الذين قابلتهم ذلك اليوم!
لقد كان يوماً لا يُنسى، ويستحقُ بجدارةٍ أن أتذكره ضمن مآسي كل ليلة!
ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أتطوع لدى نشاط يدعى "تحقيق الأماني" في جمعية رسالة الخيرية، نشاط قائم على تحقيق أحلام أسرٍ بلا مأوىً آدمي ولا تتوفر لديهم أدنى مقومات الحياة، ممن يسمونهم في مجتمعاتنا "العشوائيات"!
هنا فقط تُدرِكُ أن هناك من يكتوي بقسوة الأوطانِ أكثر منك!
قرر مجموعة من المتطوعين -ولم أعرف هل وجودي بينهم كان لحسن أو لسوء حظي- أن يأخذوا أطفال إحدى تلك المناطق في نزهة نقضي خلالها اليوم سوياً! أتذكر جيداً أنني لم أحتمل الدقائق التي كنا ننتظر فيها الأطفال في مقر إقامتهم وآثرتُ أن أنتظرهم في الحافلة التي ستُقِلُّنا! لا أعتقد أنني رأيتُ مساكن كهذه من قبل! إن جاز أن تُسمى بالمساكن! إنها ليست بالبسيطة، إنها مميتة! كدتُ أبكي، لم أتصور أن هناكَ إنساناً يستطيع العيشَ هناك! آهٍ يا بلادي!
نعودُ إلى "آية" خفيفة الظلِ التي كانت تُقلِّد كل حركاتي، بل إن لها خيالاً ينسج الأكاذيب بسرعة وبراعة! إذ أشاعت فور معرفتها بأني "دكتورة" أنها رأتني ذات يومٍ أعالج الناس في مستشفى قريبة، ولم تعرف الصغيرة أنني صيدلانية، إلا في انتهاء اليوم..
لم أنسَ ابتسامتها، وهي تقول لي اليوم فقط أحببت الصيادلة! كنت أكرههم، لأنهم دوماً ما يعطونني "الحقن"!
– نأخذ الحقن لأنها تشفينا من المرض يا آية!
– "طب ما في أدوية كتير تانية، أنا بشوفها عندهم، وبعدين مش ربنا اللي بيشفي يا "أبلة"؟!
ابتسامة وصمت!
"توتة"، هكذا ينادونها، أكثرهم فرحاً بنزهة ذلك اليوم، لدرجة أنها كانت لا تستقر في مكان وتجري بكل ما أوتيت من طاقة! أتذكرُ جيداً أن صوتي قد بُحَّ بسببها، صافحتني بكفها الرقيق في نهاية اليوم، وأخبرتني أنها سعدت كثيراً لأنها تظل يومياً حبيسة "العشة" لا تغادرها! نعم، لم تُخْطئوا القراءة! هناك أُناس في بلادي يسكنون العشش!
الطامّةُ الليليةُ الكبرى، حينما أتذكر هذه الفتاة، "أحلام"! بمجرد أن تنظرَ في عينيها، ترى أحلام العالمِ أجمع! لقد كانت كما يقولون "اسم على مسمى"! لم تلتفتِ الصغيرة إلى اللعبِ والمرح، إلى الهدايا والحلوى، كان جُلُّ همها أن نضغطَ على والدها كي تُكْملَ تعليمها! لا أنسى قط تلك النظرات المتوسلة، ونبرةُ صوتها وهي تقول لي "أنا نبيهة في العلام يا أبلة.. اتحايلي عليه والنبي بدل ما يسرحني".
ياله من إحساس بالعجز أمام أمنيتها التي لو كنا في مجتمع يحترم آدميتها، لصارت حقاً مكتسباً لا يُسأل! الرجلُ كما قالت زوجته لا يريد أن يتركَ أبناؤه التسول في الإشارات والحرف التي يمتهنونها من أجل التعليم! عرضنا عليه أن نتكفل بمصاريفها وندفع ما تجلب أحلام شهرياً، رفض رفضاً قاطعاً وكأننا سنأخذ ابنته إلى الهلاك المحقق!
– "العلام حلو، سيبناه للناس النضيفة اللي زيكم! ولادنا مابيتعلموش" هكذا ردت عليّ زوجته!
ما زالت صورة أحلام وهي تودعني بحرارة، وتُحملني سلاماً لإحدى صديقاتي المتطوعات، تطاردني ليلاً! سامحيني يا بنتي، لا أملك لكِ من أحلامكِ شيئاً إلا أن أكتب عنها!
أما أغربهن على الإطلاق، فكانت "حياة".. لم يكن لتلك الفتاة نصيبٌ من اسمها، أو هكذا أعتقد! كانت أكبرهن سناً، لكنها كانت أكثرهن طفولة! تحتكرُ اللعب والألوان وكأنما لم ترَ مثلها قط! كانت أيضاً عنيفة جداً، بدرجة لا تناسب كونها فتاة! ظلت طوال اليوم تفتعلُ الحركاتِ حتى تلفت انتباهنا، قالت لي إنهم دائماً يفضلون باقي أطفال المنطقة عليها وهذا يثير غضبها! كانت تردد كثيراً..
-"ماتتعبيش نفسك معاهم يا أبلة، العيال الـ… دول مالهمش فسح ونضافة"! تحتجب عن الكاميرا بشكل يثير الدهشة! كنا نلتقطُ الصور لتوثيق اليوم، قالت وهي تجتذب ثيابي متوسلة:
– " يا أبلة، ماتصوروناش والنبي، المرة اللي فاتت لقينا الصور على البتاع النت ده وفضحونا! دول صورونا واحنا بنصلي!".
– ليه مش عاوزة تتصوري يا حياة؟!
-ونتصور ليه؟ على الـ"أَمَلة"؟! التصوير دا بيفضحنا يا أبلة، خلينا مستورين!
يقطع هذا الحديث تأملها للـ"دبلة" التي كنتُ وقتها أرتديها في يميني، وسؤالها لي عما إذا كنتُ متزوجة، وحياؤها وحُمرة الخجل التي اعتلت وجهها عندما قلت لها "مخطوبة يا حياة، عقبالك"! أجملُ ما فيها أنها لم تُلوثُ فطرتها بعد بظروفها القاسية!
"ليلي"، رفيقتي كالظل في هذه النزهة! تجتذبُ مني الألعاب والجوائز كي توزعها على رفيقاتها، تُصدرُ الأوامر باسمي، وتُحدِّثُني عن أحوالهم بلهجة المخابراتي الذي يعرف عن الجميعِ أكثر مما يعرفون عن ذواتهم! تلك الصغيرةُ تُعِدُّ مشروعاً ممتازاً لقائدة مُلْهِمة، لكن هل من راعٍ لهذا المشروع؟
أم ستندثرُ أوراقه في أدراج مكاتب الشئون الاجتماعية، ويضيع كسابقيه كما جرت العادةُ في بلادنا؟!
أتذكرُ الكثير عن ذلك اليومِ، وجوه الفتياتِ لا تغيب عن ذهني وإن غابت أسماؤهن! أتذكر جيداً تلك الحسناء التي ظلت تحمل أختها الرضيعة طيلة اليوم، لأن أمها دوماً مشغولة على حد قولها، أتذكر أيضاً أنها ترجتني كثيراً، ألا نأخذهم في نزهات مجددة، وأن نكتفي بزيارتهم في البيوت!
ليه يا حبيبتي؟
– "مبنحبش نشوف الناس النضيفة اللي عايشين بجد، وكمان بيبصولنا بصات مش كويسة!".
وتلك الأخرى التي كانت تحتمي بي، لأن لها بنية ضعيفة، وهم لا يتوانون عن ضربها وإهانتها، على سبيل المزاح واللعب!
"خبيني منهم يا أبلة، دول عيال مفترية بيشوفوا نفسهم عليا"!
كنتُ مسؤولةٌ عن الفتيات فقط، لم أحتكَّ بالصبية طيلة اليوم، لكنه لأنه لم يكُ يوماً عادياً في حياتي، فكان لا بد أن يختمه أحدهم بصورة درامية!..
"مجدي"
بطلُ الختام! لولا أن أفلام محمد رمضان لم تكُ قد اكتسحت الشاشة بعد، لقلتُ إن هذا الفتى يقلده!
انهال عليهم جميعهم، فتيانهم وفتياتهم، ضرباً بفرعِ شجرة، عندما تجمهروا في همجية أثناء توزيع الوجبات! لم نطلبُ منه ذلك قطعاً، وكنا بالفعل نحاول أن نسيطر على الموقف، لكنه تصرف عن قناعته الشديدة بأن هؤلاء لا يُصلحُ حالهم إلا الضرب! بل والضرب المبرح!
الغريب أنهم يعتبرون "مجدي" قدوتهم وناصرهم! لم يكفوا عن أن يُبرروا فعلته بضربهم، ومن لهم سواه يحميهم إذا اعترضوا؟! كنت أسمع اسمه يتردد بين الفتيات وينادينه إذا احتجن شيئاً، أكثر مما ينادوننا نحن المتطوعات!
-"إنتي فاكرة يا أبلة إن العيال دول نضاف زيكوا وهييجوا بالعلام والمسايسة؟! دول "…."! أنا حاولت معاهم كتير مابينفعش معاهم إلا الضرب، يا أبلة ماتتعبيش نفسك، إحنا كده وعمرنا ماهنتغير!".
– طيب يا مجدي هم مش نافعين، إنت بقى حاولت تصلح نفسك؟
– انا علامي محتاج مجهود، هو أنا دماغي "نِورة" وفهِّيم، بس أنا كده هحط كل اللي بكسبه في العلام، وهو دا يفيدني كده يا أبلة؟!
حقيقةً، لا تعرفُ الـ"أبلة" ماذا يفيد وماذا لا يفيدُ يابنيّ!
انتهى اليوم، وعدتُ مثقلةَ الأحمالِ، لم أستطع مواجهة الحياةِ بعده لفترة ليست بالقصيرة!
ورغم أنه قد مضى خمسُ سنواتٍ، ما زلتُ أتذكرُ تفاصيله جيداً كلما طالعتُ ما يجري في بلادي من أزمات!
أرى نهاياتٍ مأساوية لحياة هؤلاء الأطفال! أقسمُ على أنني أرى وجوههم في وجه ابنتي، حينما تمدُ يدها الصغيرة إليّ تطلب المساعدة في شيءٍ ما، أراهم يمدون إليّ أيديهم كي أعبرَ بهم إلى بر النجاة، لكنني لا أفعل!
لقد تركتهم، بل وتركتُ البلاد كلها! كان عليّ أن أختارَ وقد اخترتُ نفسي!
لا أعرفُ حقيقة ماذا بوسعي أن أقول لهم إن التقينا يوماً! هل سيسامحونني؟
هل تأثروا بما يحدث من ضيق للعيش وأزمات متوالية؟ بالطبع تأثروا!
هل رأف أحدهم بحالهم وانتشلهم من براثن الفقر والجهل؟
هل ما زالوا يتغنون بنشيد "بلادي"؟
أم خلصوا إلى حقيقةِ أن البلادَ هي السبب الرئيسي في إذلالهم؟!
أعتقد أنه لو كان غسان كنفاني بيننا حالياً، لرأى استحقاقاً آخراً لمقولته الخالدة عن الوطن!
"هو ألا يحدث ذلك كله!".
لا أعرفُ حقيقةً لماذا تطارِدني هموم بلادنا ليلاً! ولماذا لا أرى هماً أكبرُ من همِّ هؤلاء الأبرياء! ولماذا لم تُمحَ قصصهم من ذاكرتي ويبدو أنها لن تُمحَ!
الله وحده يعلم كم أنا عاجزة عن مساعدتهم! لا أملك لهم شيئاً!
الله وحده يعلم كم يألمُ القلبُ لحالهم!
الله وحده يعلم، كم كنا نُحِبُ بلادنا، لكنها هي من تبدأ بالكراهية! دائماً!
هي الظالمة القاسية، على جميع أبنائها!
اللهم مُنَّ علينا ببلادٍ كالبلاد، يارب!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.