في الأسابيع القليلة الماضية اغتيل ما يقرب من ألفي شخص في الفلبين، في إطار حملة للدولة على تجار المخدرات، بعد موافقة الرئيس الفلبيني المثير للجدل "رودريغو ديدتيه"، الذي وصل إلى كرسي الرئاسة في 30 يونيو/حزيران 2016 على اغتيال من يشتبه في تورطه في تجارة المخدرات، حيث تتعاقد الحكومة مع قتلة محترفين لتنفيذ تلك الاغتيالات!
ومن سخرية الأقدار أن الرئيس الذي تضمن برنامجه الانتخابي صراحة وعدا باغتيال مائة ألف "مجرم"، هو واحد من رجال القانون، فهو محامٍ ومدعٍ عام سابق، وتشير بعض التقارير إلى أن الرئيس ربما قد سبق وانتهج نفس الاستراتيجية في فترة عمله كعمدة لمدينة "دافاو"، مما خفض معدلات الجريمة بها وجعلها من أكثر المدن أمناً في الفلبين.
نشرت الـ"بي بي سي" حواراً مع سيدة من ثلاث سيدات عضوات بفريق الاغتيالات الذي تعاقدت معه الدولة لتنفيذ عمليات الاغتيال، والتي قتلت حتى الآن ستة أشخاص، تنفيذاً لأوامر رجال الشرطة. تروي السيدة في الحوار كيف امتهنت هذا العمل الذي سبقها إليه زوجها، ورشحها له فور أن طُرحت فكرة استخدام السيدات؛ لأنهن أقدر على الاقتراب من "الهدف" دون إثارة الشكوك.
على قدر ما ينفطر قلبي لتلك المرأة التي أجرت الحوار وهي تحمل طفلها، على قدر ما أمقتها وألومها. فما أبشع أن يكون القتل مهنة، وما أبشع أن تكون مهنة لامرأة. المرأة التي جعلها الله باب الإنسان إلى الحياة، كيف تتحول إلى منجل يحصد الأرواح بأجر؟! تلك المرأة فقدت إنسانيتها، واضطرارها للتكسب من هذا العمل لخير دليل على أنها في بلد ظالم أهله وحاكمه، قتيلة هي منذ اليوم الذي أزهقت فيه أول روح؛ لتكسب من ذلك قوت يومها!
هل تفكر في مصير طفلها عندما يكبر ليعرف أن أبويه قتلة محترفون، وأن كل لقمة دخلت جوفه كانت ملطخة بالدماء فعلاً لا مجازاً، هل كون القتيل مجرماً أو يستحق القتل سيهون من بشاعة الأمر عليه؟!
ستعرف تلك المرأة يوماً -أو ربما تعرف بالفعل- أنها أول الضحايا، حتى وإن كان من تقتلهم مجرمين فعلاً، فتصفيتهم بلا محاكمة فعل لا إنساني، وذلك "الاختراع الرئاسي" اختراع إجرامي وإن قننته الدولة، والنظام الذي يشرع القتل تحت أي مسمى نظام أخرق، والمؤيدون له حمقى قصار النظر!
الحلول الحقيقية طويلة الأجل ولها مساراتها المتشعبة في التعليم والتوعية ومحاربة الفساد وتجفيف منابعه. صحة التقاضي ودقة التحقيقات ليست رفاهية ولا أموراً اختيارية، كلها أمور تصلح المجتمع ربما ببطء، لكنها تصلحه فعلاً، وما تفشل فيه هو أنها لن تجعل الرئيس بطلاً مغواراً يصرع الأشرار بالضربة القاضية!
تجنب الرئيس الفلبيني الطريق الطويل المضني الذي قد يبدأه ولا يصل لنهايته في حياته أو في فترة رئاسته، واختار طريقاً آخر يبني فيه مجده الشعبوي بحصد أرواح وارد جداً أن يكون بينها من لا يستحق الموت، أرواح تصبح رخيصة بكلمة، والله وحده يعلم أصادقة أم كاذبة! رئيس أقنع شعبه أن استباحة الدماء هي أسرع الطرق للوصول إلى الأمن والأمان!
من يصفق لذلك الجنون اليوم طرباً، سيعرف غداً أنه صفق لحماقة كبيرة. تقنين القتل ليس إنجازاً، وسيصحو يوماً خائفاً يترقب أن يشتبه فيه أحدهم أو يختلط الأمر فيكون آخر أيام حياته!
ربما ستتخلص الفلبين من تجار المخدرات فعلاً، لكن ماذا عن الفصيل الإجرامي الذي نبت في كنف الدولة، من يقتلون بدم بارد لكسب الرزق؟! فالسيدة في حوار الـ"بي بي سي" تعاقدت على قتل من تقول الشرطة عنهم إنهم تجار مخدرات، وسبقها زوجها إلى العمل كقاتل متخصص في قتل مَن يعجزون عن الوفاء بديونهم، وماذا بعد؟ ماذا بعد أن يصبح القتل مهنة مربحة ومعترفاً بها؟ من الفئة التالية التي ستباح دماؤها وتنهي حياتها كلمة وحفنة أموال؟ وهل سيظل القتلة المحترفون أدوات طيعة في يد الدولة أم في يد مَن يدفع أكثر؟ هل ستستأجر الدولة مَن يقتلهم يوماً ما؟ أم ستصفيهم الشرطة في وقت لاحق؟! هل سيرفعون أسلحتهم عليها أو على مَن لا يروقهم يوماً ما؟
الدولة التي تفرخ مسوخاً بشرية ترتزق من القتل حمقاء، الدولة التي تنعدم فيها الظروف الآدمية ولا توفر للإنسان رزقاً يكفيه، وتدخله دائرة إجرام مقنن ليكسب قوته، ملعونة، والإجرام يبقى إجراماً وإن قننته الدولة وبررته ألبسته مسوح الوطنية أو أسبلت عليه بركتها ورضاها!
عزيزي المواطن الفلبيني المؤيد لتلك القرارات، أفق! لا تقبل بالحلول السهلة، فكلفتها عالية على المدى الطويل وستدفع أنت الثمن. تمسك بالمبادئ الإنسانية، وتمسك بالحق والعدل حتى لمن آذاك وأضر بك، ففي ذلك الحماية والأمان لك أنت شخصياً، من حقك أن تحميك الدولة من المجرمين بإقامة العدل والقانون لا بأن تُجن وتقنن القتل.
الغاية لا تبرر الوسيلة، وإن لم تكن الوسيلة نبيلة لوثت الغاية وحطت من شأنها، ميز الله الإنسان بالعقل والقلب والضمير، وتحفظ أي منهم على أي أمر يجعله معيباً وناقصاً، فكن إنساناً ليس لأجل المقتول ولا القاتل بل لأجلك أنت.
كن موسى الذي جزعت نفسه إذا خولفت الفطرة ولم يستطِع كتم السؤال ولم يهدر حقه في المراجعة، طالب بأن يعرف الأسباب والمبررات.
حاسب الخضر، كيف تخرق السفينة؟ كيف تقتل الغلام؟ لم تقيم جداراً في ديار الظالمين؟!
سأل واعترض برغم يقينه الذي لا يشوبه شك بأن الخضر رجل صالح، يفوقه علماً، برغم أنه يتبعه ليتعلم، برغم أن شرط الصحبة كان ألا يسأل، برغم علمه أنه في اختبار ونجاحه فيه هو بالصبر والصمت، ومع كل ذلك سأل لأن الضمير الحي والفطرة السليمة لا تقبل بالأحكام العشوائية!
رئيس الدولة بشر مثلك، ليس خضر القرآن، ولا مارجرجس الإنجيل، ولا إلياس التوراة، مجرد بشر فانٍ، لا يوحى إليه.
بشر مبتلى بفتنة السلطة، والسلطة مفسدة، كما يقولون، فلا تكن أنت أعمى القلب والبصيرة، تطعم الوحش صباحاً ليلتهمك عشية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.