صرخت عالياً حتى يسمعني من بداخل المصعد، وهو على وشك الانطلاق صعوداً كي يتحلى من بداخله بالصبر وينتظروا شخصي المتأخر.. تنبهت إحدى السيدات لصرخة الاستغاثة، ففتحت باب المصعد مرة أخرى في فضول تبحث عن هذا المستجير.. رسمت ابتسامه على وجهي، ولكن أشاحت السيدة بوجهها عني في ملل، بعدما أدركت على ما يبدو زيف الابتسامة، أو لعلها تملك نفس الابتسامة، ولكن ليس المصعد محلها.
لم أهتم بها كثيراً ولا بغيرها الذين شاركوها اللامبالاة من شخصي، ولكن من قتلني الفضول بسببه هو هذا الرجل المهم الذي دوماً يحمل كوب القهوة في المصعد، ودوماً يتجاهل الجميع، فاليوم وعلى الرغم من تجنبه لنظرات الجميع كالعادة فإنه يرمقني من حين إلى آخر بنظرة لا أعلم ماهيتها، وإن كنت أظنها سخرية.
بالطبع لا أجرؤ أن أتساءل عن السبب، فهو من كبار الشخصيات التي تنزل في الطابق الذهبي الذي لا يقربه أي من الموظفين أو حتى المديرين، ويخلون المصعد من الكل قبل الوصول إلى هذا الطابق، وفي الوقت الذي يضغط كg منا بفخر على رقم الطابق الذي يخصه ينتظر هو حتى ينتهي الآخرون من تفاخرهم، ثم يضغط بكل غرور على طابقه الذهبي الذي بلا شك يتمنى جميعنا الوصول إليه يوماً ما، ولكننا نعلم بلا شك أيضاً بأنه إذا شارفنا على الوصول سنفاجأ بالنزول وبعنف إلى باب الخروج بصحبة لحن الوداع.
وسط هذا الجمع بداخل المصعد وكل منا يضمر بداخله الحسن والقبيح، كل على شاكلته.. ظل المصعد يتوقف مراراً وتكراراً، وفي كل مرة يتخلى عنه بعض من راكبيه، حتى وصلنا إلى المحطة الأخيرة التي يجب أن ينزل فيها الجميع.. خرجنا جميعاً من المصعد، ولم يتبقَ سوى الرجل المهم.. في عفوية أدرت رأسي لألقي عليه نظرة لا أعلم سبباً لها، فوجدته يبتسم لي مرة أخرى؛ لأتأكد حينها أنها سخرية.
أغلق باب المصعد في وجهي، فتساءلت: لماذا يسخر مني؟.. خطوت نحو مكتبي والمرارة تملأ نفسي، لكنى لاحظت أن الكل من حولي يبتسم في وجهي.. تملكني الرعب، فهم لم يكونوا بمثل هذه الصفات حتى الأمس.. ماذا حدث بين اليوم والأمس؟ أغلقت الباب والحيرة تقتلني مما يحدث من حولي.. أفزعني صوت الهاتف يصرخ منادياً.. أجبت فوجدته طلب استدعاء على الفور أمام المدير.. انطلقت مرتبكاً بعدما أدركت أن الأمر خطير بل هو خطير للدرجة التي أشعرتني بأنها قد تكون النهاية..
أمام باب المدير توقفت للحظة أهدئ من أنفاسي، لكن بلا جدوى.. فتحت الباب بيأس لأجد ابتسامته في انتظاري.. على الفور أدركت أنها قد تكون ابتسامة الشماتة، فابتسمت ابتسامة اللامبالاة.. مد يده بورقة ترافقها كلمات تخبرني بالمستحيل.. نعم مستحيل!.. لقد أصبحت منذ الآن من أهل الطابق الذهبي، ومن الغد سأنزل من المصعد في الطابق الذهبي… ولكن كيف هذا؟!
في اليوم التالي كنت أنا من يحمل كوب القهوة في المصعد، والكل يبتسم في وجهي.. نعم في وجهي أنا.. أنا القاطن الجديد للطابق الذهبي.. إنه الطابق حيث الرجل المهم الذي لم أجده هو وقهوته اليوم في المصعد على غير العادة.. وعلى غير العادة أيضاً لفت انتباهي تلك السيدة التي نظرت لي بالأمس في ملل، وهي تنظر لي الآن، وعلى وجهها ابتسامة أعرفها جيداً.
كافحت بشدة الشعور بالغرور، ولكني لم أنجح في كبح جماح الزهو بنفسي بعدما أصبحت أحلق بين ابتسامات من حولي.. وعلى مقعدي الأنيق بينما تطوف بي الأحلام والأماني إذ بي أتذكرها.. تذكرتها فحطت بي أرضاً أنا وأحلامي.. تذكرتها فكانت كافية لأعود إلى رشدي… فلم ألبث أن أردد عن قناعة وإيمان بأن:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ ** فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دُولٌ ** مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.