فتَّح مُخَّك يا أستاذ

"فتَّح مخَّك يا أستاذ"، كثيراً ما كنت أسمع هذه الجملة، خاصة في الأفلام القديمة، التي تحوي كثيراً من مواقف المصريين وكيفة تعاملهم مع موظفي الحكومة لقضاء مصالحهم المعطلة بفعل هؤلاء الموظفين أنفسهم، لكن ما ظننت يوماً أن تقال لي، وأن أفتّح مُخي مع مَن يقولها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/31 الساعة 08:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/31 الساعة 08:40 بتوقيت غرينتش

"فتَّح مخَّك يا أستاذ"، كثيراً ما كنت أسمع هذه الجملة، خاصة في الأفلام القديمة، التي تحوي كثيراً من مواقف المصريين وكيفة تعاملهم مع موظفي الحكومة لقضاء مصالحهم المعطلة بفعل هؤلاء الموظفين أنفسهم، لكن ما ظننت يوماً أن تقال لي، وأن أفتّح مُخي مع مَن يقولها.

تعبِّر تلك المقولة عن إعطاء الرشوة لبعض الموظفين غالباً في الهيئات الحكومية لقضاء مصالح الناس، التي هي من المفترض من واجباتهم الأساسية، أو هي من صميم عملهم الذي يتقاضون عليه الأجر أو الراتب الشهري.

في العادة يقوم الموظف إيَّاه بتعطيل مصلحة المواطن، الذي يكون في العادة في
أمَسّ الحاجة لقضائها، بحجج واهية، كأن يتعلل بطلب توقيع ما، أو أن يدَّعي أن الأوراق والمستندات ناقصة، أو الأختام غير واضحة، أو جهاز الكمبيوتر الخاص بالهيئة معطل.. وهلَّم جراً.. وبقدرة قادر حينما يفتح المواطن مخَّه ويضع له بضعة جنيهات برفقة أوراقه.. تصير الأختام واضحة، والتوقيعات مستوفاة.. والكمبيوتر "شغال تمام".

أذكر أنني تعرضت لكثير من هذه المواقف التي تستدعي تفتيح المخ -كما يدَّعون- لكني في غالبها حينما تتضح هويتي لذلك الموظف اللعوب بصفتي صحفياً، لا يكمل طريقته، وينقضي الأمر سريعاً.. لكني لا أنسى ذلك الموقف الذي تعرضت له منذ ما يقرب من 20 سنة تقريباً، حينما كنت أدرس بأحد المعاهد المتوسطة الأزهرية (القراءات)، بجانب دراستي العامة، وكنت أجد صعوبة في الجمع بين الحضور هنا وهناك.. فكنت أتغيب عن الحضور بذلك المعهد، الذي كان يسيطر على قضاء

مصالح الطلاب فيه "مافيا" أو عصابة، على رأسهم ذلك السكرتير البغيض الخاص بالحضور والانصراف والغياب، -لا داعي لذكر اسمه- لا أدري أما زال حياً يطالب الدارسين بتفتيح مخهم؛ كي يقضي لهم مصالحهم، أم واراه الثرى وأغلق مخه عن الدنيا.. فحينما تم فصلي وقتها بسبب غيابي المتكرر من المعهد، كانت سني صغيرة، ولم يكن لي تجارب في الحياة، أو في التعامل مع مثل هؤلاء المرتشين، فذهبت طالباً منه إعادة قيدي، كما رجوته لأنني أدرس بالتعليم العام، ولن أستطيع الحضور.. فإذا به يكيل لي تهم الإهمال والاستهتار وعدم تقدير قيمة العلم.. إلخ.. لدرجة أنني كدت أبكي من هول ما سمعت، فتساءلت: وما الحل؟! فقال: عليك بطلب إعادة القيد، وسأوقّعه لك.. فقلت بيني وبين نفسي: لا بد أنه تعاطف معي وسيقدم لي المساعدة لوجه الله.. ثم أعطاني ورقة.. جلست بجانبه وأعددت طلب إعادة القيد.. وحينما تقدمت إليه ليوقّعه، ابتسم ابتسامة "صفراء" قائلاً: "ماشي"، لكنه علَّق بأسفل الطلب ووقَّع؛ لأفاجأ بذلك التعليق: "المعهد لا يسمح بإعادة قيد الطالب!"، وهنا رجعت إليه، وقبل أن أكلمه، إذ به يقول لي: "فتَّح مخك يا أستاذ شوية"، مشيراً إلى درج مكتبه، وهنا دون أن أشعر -فليسامحني الله وربما أعذر بصغر سني وقتها أو عدم درايتي بخطورة ما فعلت- أخذت عشرة جنيهات ووضعتها في الدرج.. فقال لي: "اصبر شوية.. تاخد سيجارة؟!".. ودبَّج طلباً "ما يخرّش الميَّة"، وتحوَّل تعليقه بـ"قدرة قادر" إلى "المعهد لا يمانع في إعادة قيد الطالب"، لم أنسَ تلك الكلمات أبداً، وبعدها أكملت المسير لأخذ بقية الموافقات الأخرى على الطلب، لكنني حوَّلت نظام الحضور لأكون منتسباً للمعهد غير ملزم بالحضور، على أن أمتحن في نهاية العام الدراسي، كي لا أقع فريسة وأفتح مُخي مع هؤلاء الفاسدين مرة أخرى.

حذارِ أن تفتح مخك مع هؤلاء المرتشين، بل عليك بفضحهم ما شئت؛ لأن ذلك أصبح حقاً من حقوقهم -كما يزعمون- تحت مسميات عديدة كـ"الإكرامية"، و"الإفطار"، و"السجاير".. إلخ.

وهنا أورد بعض أقوال العلماء في ذلك:
الرشوة من كبائر الذنوب، لما رواه أحمد وأبو داود، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رضي الله عنهما، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي، صححه الألباني في "إرواء الغليل".
و"الراشي" هو معطي الرشوة، و"المرتشي" هو آخذها.
فإذا استطعت إنهاء أعمالك من غير دفع للرشوة حرم عليه دفعها.

ثانياً: إذا لم يستطِع صاحب الحق أخذ حقه إلا بدفع رشوة فقد نص العلماء -رحمهم الله- على جواز دفعه للرشوة حينئذ ويكون التحريم على الآخِذ لها لا المعطي، واستدلوا بما رواه أحمد، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا، وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلا نَارٌ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ)، صححه الألباني في صحيح الترغيب (844).
فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي هؤلاء المال مع أنه حرام عليهم، حتى يدفع عن نفسه مذمة البخل.

قال ابن تيمية رحمه الله: "فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه
الواجب كانت هذه الهدية حراماً على الآخِذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعطي أحدهم العطية… الحديث).
يرجى الرجوع لهذا الرابط للاستزادة في المسألة إن شئتم:

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد