أثمن ما يملكه الإنسان حريته التي وهبه الله إياه، فلولا الحرية لأصبحنا جميعاً عبيداً نُباع ونُشترى، والحُريَّة هي الروحُ التي نعيش بها، ولا يمكن لأي إنسان سويّ أن يعيش بدون حرية، وهذا ما عبر عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قال لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".
ولا يكفي أن تنطق كلمة الحُريَّة لتكون حُرًّا، فللحُريَّة معانٍ تتعدّى الوصف وتتعدّى الكلام، الحُريَّة هي ما يَدفَعُ بالإنسان إلى الإبداع وإلى الإنتاج، ممّا يدفع بالدول إلى التقدّم والنمو والازدهار، والحُريَّة حقٌ أساسي من حقوق الإنسان يُولد مَعَه ويَكبُرُ معه، ولا يحقّ لأيّ أحد أن يَسلُبَهُ إيّاه ما دام لم يتعدَّ على حقوق غيره، فكما يُقال تنتهي حُريَّتك عندما تبدأ حُريَّة الآخرين.
والإنسان الذي لا يمتلك حق التعبير عن رأيه هو إنسان أبكم لا يستطيع الكلام، فهو يرى الفساد ولا يَستطيع ردعه، ويرى الانتهاكات اليوميَّة لحقوقه ولا يستطيع إيقافها، ويرى نفسه محكوماً بقواعد وقوانين جائرة لا يستطيع الإفلات منها، وهذا كُلهُ بدوره سيجعل الإنسان كالآلة بلا روح، يعمل بمللٍ وبخوفٍ من المُستقبل، ويركضُ فقط ليؤمّن قوت يومهِ، ويجعل من الدولة مكاناً مُظلماً لا حياة فيها ولا تقدّم ولا إصلاح ولا تنمية، والإنسان الذي لا يمتلك حقّ التنقّل وحريّة الحركة هو بالضبط كمن وُضع في قفصٍ مُظلم فيه نافذةٌ صغيرة تجعله يرى مقداراً ضئيلاً من النورِ والضوء ومساحةً محدودةً من سماءٍ حُرمَ من التحليق فيها، فتخلُقُ فيه كائناً محبطاً مقتول النفس عالقاً ما بين أرضٍ مُنع من أن يطأها وسماءٍ لن يلمسها.
واقع الحريات العامة في ظل حكم العسكر:
الواقع الذي نحياه في مصر طيلة أكثر من ستين عاماً، حُكمت فيها مصر بحكم العسكر، غابت فيها الحريات العامة، وإنْ بدرجات متفاوته، في كل عصر، ولكنها في عصر السيسي المُنقلب على الديمقراطية، انعدمت تماماً، ولا يستطيع أي إنسان أن يعبِّر عن رأيه بشكل طبيعي، ومن أهم هذه الدلالات:
أولاً: التضييق على حرية المعتقد والصلوات والاعتكاف في المساجد، فقد عبّر السيسي في حوار تلفزيوني أثناء ترشحه للرئاسة، "أنه مسؤول عن كل حاجة في الدولة حتى دينها، مسؤول عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين"، وفي الممارسة نجد أنه يحارب كل ما له علاقة بالدين الإسلامي، على خلاف ما يفعل مع الكنيسة ورجالها، بل يريد تغيير المناهج بدعوى تجديد الخطاب الديني، ونجد في المقابل، للأسف، التضييق على ممارسة العبادات في المساجد، وتحول وزير الوقاف إلى موظف في الأمن الوطني، يستبعد من يشاء في الوزارة بتعليمات أمنية، لا علاقة لها بالتقييم العلمي أو الأداء الوظيفي، وفي مناسبة الاعتكاف في رمضان، بدلاً من أن تشجع الدولة على ذلك، وتُيسِّر للمعتكفين، تشترط على من يرغب في الاعتكاف، كتابة كل البيانات المتعلقة به، في أسلوب غريب، لم نعهده من قبل.
ثانياً: نلاحظ أن الحريات العامة مسلوبة ومُعتدى عليها ولا يوجد شيء منها أصلاً، فالاعتقال السياسي موجود بما فيه من ظلم ومحاولة تغييب للشخصيات الفاعلة في المجتمع، ثم الفصل الوظيفي وقطع أرزاق الناس، ثم المسح الأمني الذي يقف عائقاً أمام طموح أيّ شخص في الترقي والتدرج بحياته الطبيعية، كما أنّ الاعتداء على المال الخاص، وحظر الحسابات في البنوك ومصادرتها بحجة محاربة الإرهاب، وغلق المتاجر الخاصة ومصادرة الأموال، بالإضافة للاعتداء على حُرمات البيوت واقتحامها في أي وقت، واعتقال من فيها، بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، بالاختفاء القسري، الذي انتشر في الفترة الأخيرة بصورة مُفزعة، والإهانات المتوالية لأهالي سيناء، وتهجيرهم من مساكنهم وهدمها عليهم، بل قتلهم في كثير من الأحيان، بدعوى أنهم إرهابيون!
ثالثاً: التضييق على حرية التعبير، وتكميم الأفواه لكل من يريد إبداء رأيه في القضايا المختلفة، وإغلاق العديد من القنوات الفضائية عقب الانقلاب مباشرة، واعتقال الصحفيين، واقتحام نقابتهم، وتلفيق التهم للنقيب، والاعتداء الجسدي واللفظي على الصحفيين ومُعدّاتهم، الذين يختلفون مع سياسة النظام الحالي..
وقد رصد مؤشر الديمقراطية الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" وضع مصر في المرتبة 158 من أصل 178 دولة، وأشار هذا التقرير إلى اعتداءات عديدة في الفترة ما بين يناير 2016 إلى منتصف مايو من نفس العام، بأن عدد الانتهاكات وصل إلى 1126 انتهاكاً، بمتوسط 8 انتهاكات يومية و250 انتهاكاً شهرياً لكل من غرّد خارج أسراب التأييد في مصر، بالإضافة لـ 15 حكماً قضائياً بالسجن، والغرامة ضد 182 مواطناً؛ بسبب التعبير عن آرائهم، بشكل يرسم ملامح "دولة الخوف" ويعود بقضية حرية التعبير في مصر لأزمنة مُظلمة.
رابعاً: التضييق على أساتذة وطلاب الجامعات، واعتقال المئات منهم، والفصل التعسفي للعديد من الأساتذة والطلاب، بل وصل الأمر إلى قتل العشرات بدم بارد، سواء في داخل الجامعات أو البيوت أو المعتقلات، وتلفيق التهم للعلماء وأساتذة الجامعات، وإصدار أحكام جائرة تعسفية ضدهم، والتنكيل بهم داخل السجون المصرية.
بل وصل الأمر إلى تفصيل قوانين ولوائح داخل الجامعات لقمع الأساتذة، منها: منح رئيس الجامعة سلطة الفصل النهائي للأستاذ الجامعي، بزعم مشاركته أو دعمه لأعمال عنف وتخريب، وتسهيل عملية تلفيق التهم ضدهم للتخلص منهم بنص قانوني، وحدث هذا مع المئات من أستاذة الجامعات المختلفة، والعلماء في وزارة الأوقاف، بل والعديد من الوظائف الأخرى.
خامساً: إصدار قانون مشبوه للتظاهر، مثّل هذا القانون أداة أولية لتوقيع أقصى عقوبات وانتهاكات طالت المحتجين مهما كانت مطالبهم أو فئاتهم أو أشكال احتجاجهم، حيث عمدت السلطة التنفيذية فض 45 مظاهرة ومسيرة احتجاجية من خلال قوات الأمن، فيما ألقي القبض على 766 محتجاً خلال 2016، في حين يتعرض أكثر من 310 مواطنين للمحاكمات على خلفية اتهامات بالتظاهر أو التحريض عليه، وشمل قانون التظاهر عقوبة السجن والغرامة من 100 ألف إلى 300 ألف جنيه لكل من عرض أو حصل على مبالغ نقدية، أو أي منفعة لتنظيم المظاهرات، أو الاعتصام دون إخطار أو توسط في ذلك، ويعاقب بذات العقوبة كل من حرّض على ارتكاب الجريمة وإن لم تقع، ويعاقب بالحبس والغرامة من 50 ألفاً إلى 100 ألف جنيه كلُّ من ارتكب المحظورات التي نصّ عليها القانون، كما يعاقب بالغرامة من ألف إلى 5 آلاف جنيه كل من قام بتنظيم مظاهرة، أو موكب دون الإخطار عن ذلك، مع صدور قرار قضائي بمصادرة المواد والأدوات والأموال المستخدمة في هذه الجرائم.
سادساً: المنع من السفر للعشرات ممّن يعارض النظام أو يخرج عن طوْعه، حيث ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أن سلطات المطارات المصرية منعت ما يقرب من 500 شخص أغلبهم نشطاء ومحامون وصحفيون من مغادرة مصر واحتجزت بعضهم بشكل مؤقت منذ العام 2013، وكشفت الصحيفة عن تعرض مصريين معارضين آخرين لمعاملة أسوأ بكثير من الحجز في المطارات، ومن أبرز هؤلاء الأستاذ فهمي هويدي، والحقوقي جمال عيد، والدكتورة رباب المهدي، والصحفي حسام بهجت، وغيرهم كثير، حيث تحول المنع من السفر لعقاب لكل من يعارض السيسي ونظامه، ناهيكم عن قرارات ترقب الوصول للمئات من معارض السيسي.
سابعاً: التضييق على منظمات المجتمع المدني، وتلفيق التهم لمدرائها، بحجج واهية، حيث وقّع السيسي على حزمة من القوانين، تهدف إلى إضعاف المجتمع المدني في مصر، وفي المقابل تمّ تشديد قانون العقوبات لمعاقبة منظمات المجتمع المدني، بدعوى تلقي أموال من الخارج، بالإضافة إلى تلقي تهديدات بالاعتقال والتعرض للعنف الجسدي الذي اضطر العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان لمغادرة البلاد قبل إلقاء القبض عليهم، واستمرار الاحتجاز التعسفي لأكثر من 240 محامياً ومدافعاً عن حقوق الإنسان، ومنهم أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان السابق، الدكتور محمد البلتاجي، والمحامي عبدالمنعم عبدالمقصود الذي قضى عاماً كاملاً داخل السجن، وكذلك الناشطة الحقوقية ماهينور المصري التي تم الإفراج عنها بعد قضاء 6 أشهر في السجن، بينما استمر حبس مسؤولة ملف العدالة الانتقالية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية يارا سلّام، وعلاء عبدالفتاح وسناء سيف الناشطين الحقوقيين، ومهاجمة مؤتمرات حقوقية واقتحام وتكسير مقرات لمنظمات حقوقية، مثل المنظمة المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك منع ممثلي منظمة "هيومان رايتس ووتش" من الدخول إلى مصر لتنظيم مؤتمر لعرض تقرير أعدته يوثِّق ارتكاب مجازر أثناء فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، وجرائم ترقى إلى كونها جرائم ضد الإنسانية اقترفتها السلطات المصرية في حق المواطنين.
كل هذا وغيره كثير، هدفه القضاء على العمل الحقوقي في مصر بشكل بطيء، وبخطوات يتخذ بعضها أشكالاً قضائية. وهذا التراجع الذى يحدث للمجتمع المدني بشكل عام سيكون له الأثر في تراجع حقوق الإنسان فى مصر، وتوقف مسيرة التوعية، وسيكون له عواقب وخيمة في المستقبل.
إن تكميم الأفواه ومصادرة الحريات، وتغييب كل المعارضين في السجون، والمنع من السفر، وتعقب منظمات المجتمع المدني، لن يمنع الأحرار من الوقوف ضد نظام السيسي وفساده واستبداده، الذي يمارس كل أشكال التعنت والقتل والتضييق على المعارضين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.