هل تصبح مدينة منبج ذات الغالبية العربية جبهة جديدة بين الكرد الذين يحكمونها فعلياً رغم إعلانهم الانسحاب منها، وبين الثوار السوريين المدعومين من تركيا؟
ازداد احتمال وقوع صراع بين هاتين المجموعتين من الجماعات المسلّحة المدعومة أميركيًّا، خاصة مع توسيع الأكراد لمناطق نفوذهم في مناطق ذات غالبية عربية، مما أثار غضب تركيا التي ترفض إقامة منطقة ذات حكم ذاتي كردي وتتهم القوات الكردية بتشتيت السكان غير الأكراد في المناطق التي تسيطر عليها.
ومن الممكن أن يكون من عواقب تفجّر هذا النزاع المحتمل تبديد جهود واشنطن في القضاء على وجود تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سوريا، حسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.
الغارات التركية على الداخل السوريّ تؤشر لزيادة حدة الصدع بين المجموعتين اللتين سبقتا أن حاربتا داعش، ووصوله لمرحلة غير مسبوقة بعد تخطي الأكراد الخطوط الحمر التي وضعتها أنقرة.
وتتركّز الجهود العدائية على مدينة منبج الاستراتيجية والواقعة على الضفة الغربية من نهر الفرات. فقد قامت القوات الكُرديّة بانتزاعها من تنظيم "الدولة الإسلامية" في هذا الشهر، مما زاد من مخاوف تركيا والثوار السوريين الذين تدعمهم من أنّ انتزاع الأكراد للمدينة سيزيد من النفوذ الكُرديّ في الشمال السوري، خاصة بعد أن أعلنوا الحكم الذاتي من طرف واحد.
هل انسحبوا من منبج؟
وتحت ضغط أميركيّ، قامت القوات الكُرديّة، والمعروفة باسم "قوات حماية الشعب" YPG، يوم الخميس 25 أغسطس/آب 2016 بإعلان انسحابها من المدينة التي تقطنها غالبية عربيّة.
وجاء هذا الإعلان بعد ساعات من توغّل الدبابات والقوات الخاصة التركية، والمدعومة بغطاء جويّ أميركي وتركي، في الداخل السوري وتقديمها الدعم للثوار السوريين من أجل إنهاء سيطرة تنظيم "الإسلامية" على مدينة جرابلس.
إلا أنّ بعض الثوار العرب والتركمان المدعومين من قِبَل الولايات المتحدة وتركيا، أفادوا في بعض المقابلات يوم الجمعة 25 أغسطس/آب 2016 أنّ القوات الكرديّة ما زالت تسيطر على مدينة منبج، متعهّدين بتحريرها منها.
وقصف الجيش التركي أهدافاً حول مدينة منبج على بعد 25 كيلومتراً جنوبي جرابلس (تصل المسافة بين منبج وجرابلس إلى 38 كيلومتراً)، إذ تبدو قناعة الأتراك أن القوات الكرديّة إمّا لم توفِ بتعهّداتها بالانحساب من المدينة أو ربما تحاول العودة إليها.
وقال مسؤول تركيّ رفيع المستوى، طلب عدم ذكر اسمه، إن "المخاوف التركية تنبع من حقيقة أن لقوات حماية الشعب سجلٌّ في تشتيت السكّان غير الأكراد" من أية مدينة تسيطر عليها.
وقالت تركيا السبت 27 أغسطس/آب 2016 إنها شنّت عدداً أكبر من الغارات الجوية ضد القوات الكردية شماليّ منبج، فيما قام المقاتلون المدعومين من أميركا وتركيا بالاشتباك مع مقاتلي الأكراد بالقرب من جرابلس. وبحلول الظلام، كانت الاشتباكات تتصاعد أكثر.
وذكرت وكالة أنباء الأناضول الرسمية، أن صاروخاً كرديًّا أصاب دبابة تركية مما أودى بحياة أحد الجنود وإصابة ثلاثة آخرين جنوبي جرابلس، وتعدّ هذه أولى الخسائر التركية في هذا الهجوم مما يرجّح احتمالية اتساع نطاق الحرب.
الحلفاء الأعداء
ويمكن لتلك المواجهات أن تؤدي إلى تعميق الهوّة بين اثنين من المجموعات المدعومة أميركيًّا: أولاهما الثوار العرب والتركمان المدعومون من قِبل الاستخبارات الأميركيّة والبنتاغون، في مواجهة القوات الكرديّة المدعومة من البنتاغون؛ مما سيؤدي إلى تشتيت الجهود في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش). ويوضّح هذا حجم التحدّيات التي على الولايات المتحدة مواجهتها لتنسيق تلك الجهود المتناقضة والتي تغذّيها وتُذكيها الاختلافات العرقيّة، وكذلك التنافس على التمدد الجغرافي مع اختلاف أجندة كل فريق منها في ساحة قتال معقّدة وشديدة الارتباك.
وقد سبق للثوار السوريين والقوات الكردية الاشتباك في مناطق أخرى من سوريا، إلا أن الطرفين واجَهَا أيضاً تنظيم داعش، وإن يكن على جبهات متفرّقة. لكن اليوم يأتي نزاع الطرفين مُنذِراً بالتمدد إلى مناطق جديدة مع دخول تركيا على خط المواجهة، مما سيغيّر من شكل المشهد العسكري في سوريا.
وذكر المرصد السوريّ لحقوق الإنسان، ومقره لندن، أن مناوشات جرَت بين القوات الكرديّة والثوار السوريين ليلة الأربعاء 24 أغسطس/آب 2016 في عدة أنحاء مجاورة لقرى سورية بين جرابلس ومنبج. وقصفت طائرات تركيّة السبت أهدافاً كرديّة قريبة من قرية العمارنة، على بعد خمسة أميال جنوبي جرابلس، فيما قام الثوار السوريون بالاشتباك مع مقاتلي "مجلس جرابلس العسكري" والذي شكّله الأكراد مؤخّراً. ويتوقّع الكثير من المراقبين أن تصبح منبج من جديد جبهة أماميّة في مواجهات قادمة.
"ما زلنا بانتظار ما إذا كانوا سيتراجعوا إلى شرقي الفرات". هكذا صرّح أحمد عثمان، قائد القوات التركمانية في الجيش السوريّ الحر المدعوم أميركيّاً، متحدّثاً عن المقاتلين الأكراد، وأضاف "إذا لم يحدث هذا، فإننا سنضطر إلى استعمال القوة لدفعهم على التراجع".
مجلس صوري
ومن جانبهم، قال المقاتلون الأكراد أنهم سلّموا مواقعهم إلى مجلس عسكريٍّ محليّ في منبج، تسيطر عليه أغلبية عربية.
إلا أن الثوار السوريين يرون أن المجلس في الواقع لا يزال تحت سيطرة القوات الكرديّة.
وقال متحدّث كردي باسم هذا المجلس يوم الجمعة أنهم سيواجهون أيّ ثوار تدعمهم تركيا إذا ما حاولوا دخول مدينتهم؛ قائلاً "سندافع عن أنفسنا"، حسب تعبيره.
وصرح الصحفي والناشط نزار مهدي، وهو بالأصل من منبج، أن بعض أصدقائه وأقاربه في المدينة أخبروه أن القوات الكرديّة لا تزال في المنطقة وتتخذ من بعض الأماكن نقطة انطلاق لعملياتها.
وقال مسؤول أميركيّ بوزارة الدفاع، اشترط عدم ذكر اسمه إذ أنه غير مخوّل بالتعليق على هذه القضيّة، إنه بينما ينسحب القادة والمقاتلون الأكراد إلى شرقي الفرات، فإنّ مجموعات أصغر من القوات الكرديّة ما زالت تتمركز في منبج.
وذكر أن هذه القوات تقوم بتمشيط المدينة بحثاً عن أية عبوات ناسفة ربما تكون داعش قد زرعتها في المدينة، وكذلك يعملون على ضمان عدم عودة مقاتلي داعش إليها، حسب قوله.
وأضاف "لقد قاتلت القوات الكرديّة لوقتٍ طويل، وبذلوا جهوداً مضنية من أجل استرداد المدينة من داعش؛ والآن نريد أن نضمن وجود حامية في المدينة تمنع تسلُّل عناصر داعش إليها".
وأقرّ المسؤول الأميركي بوجود نزاع بين المقاتلين العرب والأكراد في المنطقة، إلا أنه قلَّلَ من أهمية هذا التوتر والنزاع، قائلاً "يعدّ هذا أمراً طبيعيّاً في الحروب القائمة على تحالفات عسكريّة". مشيراً إلى أنّ الولايات المتحدة عملت على نزع فتيل الأزمة بين الطرفين ولو جزئيّاً "بتذكير الجميع بالسبب الحقيقيّ للمشاكل في المنطقة، وهو داعش".
المشاركة الأميركيّة
وقامت وزارة الدفاع الأميركية هذا العام (2016) بإمداد قوة صغيرة قابعة في شمال شرقي سورية بحوالي 250 من عناصر قوات العمليات الخاصة.
وقال مسؤولون أميركيّون أن المهمة الأساسيّة لهذه العناصر هي الإشراف على تجنيد وتدريب المزيد من العرب للقتال ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، في محاولة لموازنة القوات الكردية حتى لا تبدو وكأنها تغزو المناطق العربية، وذلك لعدم إثارة مشاعر السكان العرب. إلّا أن القوات الخاصة الأميركيّة كانت تقاتل أيضاً إلى جانب المقاتلين الأكراد على بعض الخطوط الأمامية، بما في ذلك معركة منبج الأخيرة.
وتنزعج تركيا من الدعم الأميركي للقوات الكرديّة؛ والمعروفة في مجموعها باسم "قوات سورية الديمقراطية" وتشكل "قوات حماية الشعب" (بالكردية YPG) الجزءَ الأكبر منها. وقد زاد التوتر على إثر قيام القوات الكردية بتوسيع مناطق نفوذهم في سوريا خلال الأشهر الأخيرة، مقتربين من مناطق يسيطر عليها ثوار تدعمهم الولايات المتحدة وتركيا معاً.
ويقول الكثير من المراقبين إن أحد أهداف أنقرة من هذا الهجوم الأخير، والمسمّى بـ"درع الفرات"، هو منع أكراد سورية من بسط سيطرتهم على المزيد من الأراضي في الداخل السوريّ.
وكانت الحكومات التركية في مواجهات طويلة مع الأقلية الكردية المتمردة داخل البلاد، ولذا ترى أنقرة في أيّ نفوذ كرديّ في الدول المجاورة مصدر تهديد لأمنها القومي. وهناك تواصل بين الثوار الأكراد السوريّين وبين حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً دموية ضد الجيش التركي منذ عقود، حسب التقرير.
وكانت تركيا في السنوات الأخيرة تدرس إقامة منطقة عازلة تسمح للمعارضة السورية بالقتال بصورة أفضل ضد كلٍّ من نظام بشار الأسد وتنظيم داعش.
وتعتبر هذه المنطقة تمهيداً لإقامة منطقة آمنة تسمح بعودة ما يزيد عن مليونَي لاجئ إلى داخل سوريا. إلاّ أن كَونَ هذا من بين أهداف الهجوم الأخير ما زال أمراً يكتنفه الغموض.
إلّا أنه من الواضح أن أنقرة تسعى إلى كبح جماح طموح أكراد سوريا الساعين لتوحيد المناطق التي يسيطرون عليها في الشمال السوريّ على حدود تركيا، وهو الأمر الذي يثير المخاوف التركية إذا تعتقد أنقرة أنه سيشجّع تنظيم "حزب العمال الكردستاني" الانفصالي في الداخل التركيّ.
"عناصر إرهابية أخرى"
وصرّح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم للصحفيين في إسطنبول الجمعة 25 أغسطس/آب 2016 أن بلاده "ستواصل العمليات (في سوريا) حتى يمكنها بشكل تام توفير الأمن لمواطنيها وممتلكاتهم مع ضمان أمن الحدود (الجنوبية)".
وأضاف أيضاً "سنواصل (العمليّات) حتى طرد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية" والعناصر الإرهابية الأخرى في إشارة واضحة إلى المقاتلين الأكراد.
وصرّح مسؤول كبير آخر بوضوح أن أهداف تركيا من تلك العمليات تشمل كبح تمدد أكراد سوريا وسيطرتهم على المزيد من الأراضي.
وقال وزير الدفاع التركي فكري إشيك إن لهذه العمليات هدفين رئيسيين، أولهما تأمين الحدود التركيّة-السوريّة والآخر وقف تمدد القوات الكرديّة ومنعها من الوصول إلى منطقة غرب الفرات.
وأضاف في مقابلة أجرتها معه شبكة إن تي ڤي، التركية الخميس الماضي، أن "أولويّتنا الاستراتجية هي منع الأكراد من ربط أقاليم الحكم الذاتي الكرديّة الواقعة غربي وشرقي الشمال السوريّ (الجزيرة، كوباني، وعفرين)".
ويواصل الثوار السوريّون محاولات تأمين جرابلس مع توغل الدبابات التركية لدعم جهودهم. وتجوب فرق التأمين أحياء المدينة لتطهيرها من الألغام والعبوات الناسفة التي خلّفتها عناصر "الدولة الإسلاميّة". فيما تحاول بعض الفرق الأخرى حفر الخنادق وتحصين المدينة تحسُّباً لأية هجمات في المستقبل.
وقال أبو إبراهيم، القيادي في الجيش السوري الحر، "نريد أن نمنع أي عدوّ من التقدّم. ونعني بالعدوّ داعش وقوات حماية الشعب" وهي القوات الكردية في المنطقة. مضيفاً "يعرف الجميع مَن هي داعش، إلا أن قوات حماية الشعب تحاول تقسيم سوريا، وهو أيضاً أمر غير مقبول".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.