-"هل تذكرين أخت صديق ابن عمي؟ لقد توفي ابنها البارحة في حادث مروع بأحد المهرجانات الليلية.. انظري لهؤلاء المسؤولين اللامسؤولين، خربوا شبابنا وبيوتنا.. الله ياخد فيهم الحق..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. والله هادي علامات الساعة.. الشباب يموت صغيراً
والمعيشة غالية.. والحروب في أي مكان.. والأمراض يا ربي السلامة..
– هادي بلاد يعيش فيها فقط الغني؟ أنا مريض ومحتاج للدوا ولا أحد يهتم..
استيقظتُ باكراً ذاك الصباح.. خرجت متفائلة، عازمة على قضاء يوم جميل ومميز.. كيف لا؟! والجو معتدل وأشعة الشمس دافئة وصوت العصافير يطرب الآذان..
انتظرتُ الحافلة غير مكترثة لتأخرها.. فالحافلة عندنا تصل فقط حين لا تنتظرها.
ركبت الحافلة غير مهتمة لازدحامها.. فبالرغم من قلة الهواء إلا أنني كنت راضية كفاية.. فالرضى أول خطوة للحفاظ على صفو المزاج في يوم جميل كهذا.
وقبل أن أحاول الغوص في بحر من الذكريات الجميلة.. انتبهت لمجموعة من النسوة الجالسات على تلك الكراسي النادرة.. يتعارفن على بعضهن بعضاً.. فقد قضت العادة أن يقضي الركاب وقتهم في أحاديث تنسيهم طول الطريق وتحجب عن آذانهم أنين الحافلة.
لكن، ويا ليتني أبحرت قبل أن أستمع لحديثهن القاتل.. لقد استعرضن على بعضهن بعضاً آلام الجيران وأحزان الأقارب ومشاكل الحياة، لعن الحكومة والمسؤولين والناس أجمعين..
وفجأة تفتحت شهية باقي الركاب لوجبة إفطار شهية من أخبار الموت والطلاق والحروب والمرض.. فهل كان هذا كله جوعاً وعطشاً للألم؟
تنبهت إلى حافلتنا المسكينة.. فرغم ازدحام الركاب والتصاقهم ببعضهم بعضاً، رغم الوجوه الكئيبة والغاضبة والمتعبة، إلا أنها لطالما كانت وفية وحريصة على إنجاز مهمتها، وإن تأخرت تصل..
لكنها متعبة، كيف لا؟! وقد تصدأ محركها بكلمات تقضي على كل معاني الأمل والصمود، بل وتقضي على أي معنى للحياة.. بدأت الحافلة تتباطأ رويداً رويداً.. ومن حين لآخر تنذرنا ببعض الأصوات الغريبة.. ربما تريد التوقف وتقيء ما بداخلها من ركاب، فكلامهم سم يسري بداخلها.. ربما سترمي بنا للشارع لنقضي صباحنا الجميل في انتظار حلم توقف حافلة أخرى.. وأي حافلة سترضى بابتلاع سم قذفته أختها؟!.. أتخيل حقاً أن تحاول حافلتنا الانتحار بسبب اكتئاب حاد.. فتنقلب ومن فيها لا قدر الله..
ولأن الناس أصبحوا يفطرون بالألم ويتغذون عليه.. أصبحوا يدمنون عليه، بل ويتنافسون في استعراض أكبر وأكثر الآلام، على أساس أنه بقدر الألم الذي تعرفه بقدر معرفتك بالحياة.. وبالتالي حكمتك.
تمنيت فقط حينها لو امتلكت جرعة من الشجاعة؛ لآخذ الكلمة داخل تلك الحافلة البئيسة، وأخبر العالم بما لدي من أخبار جميلة عن الحياة.. غير أنني أولاً، لا أملك تلك الجرأة، وثانياً.. أخشى إن حاولت ذلك أن يكون مصيري مصير من يحاول إبعاد مدمن عن مخدره قبيل حصوله على نشوة كان ينتظرها، بل كان في أمس الحاجة إليها..
بدأت أفكر في الحياة.. لماذا لا تبدو لي سوداء لهذا الحد؟ أتراني لا أدرك حقيقتها بعد؟ أم أنه حقاً ليس في الحياة ما يجعلنا نحبها ونستمتع بها؟.. بل ونشكر الله عليها؟
كنت مصرة على قضاء يوم جميل ومستعدة لأي شيء من أجل يومي.. لذلك قررت أن أكلم الحافلة..
لك أيتها الحافلة سأبتسم وسأجعلك تستمتعين بما لدي من أخبار سارة.. دعيني أحدثك عن ولادات جديدة وأفراح قريبة.. نجاح صديق، وتخرج طالبة، عودة مغترب وفرحة تائب..
دعيني أخبرك عن تفتح تلك الزهور العطرة وتلك الأشجار المثمرة.. عن خضرة الطبيعة وزرقة السماء الصافية عن إطلالة الهلال واكتمال القمر..
ألا تعلمين أن فلاناً قد شفي من مرضه؟ وهو عائد اليوم إلى أسرته؟ هل تعلمين أن شمل أسرة قد جمع أخيراً؟ ألا أحدثك عن ضحكة طفل صغير وابتسامة جارنا صباحاً.. عن عناق صديقين وأحلام رفيقين.. أنا أحدثك عن الحب عن العطاء.. عن الصدق والتسامح.. عن الكرم والحلم.. أنا أحدثك عن الحياة..
قد يكون خيالي واسعاً كفاية لأتكلم سرًّا إلى حافلة.. لكنني أحسست في لحظة أنها تستعيد نشاطها.. فما عادت تئن من الألم ولا تنذرنا بالتوقف.. إنها تسير بهدوء، بثبات، بكل ثقة.. لقد استطاعت سماع نبض الأمل بداخلي.. ولربما بداخل آخرين من الركاب، فأقسمت أن لا تستسلم ولو من أجل شخص أو شخصين..
لا تحدثوني عن الألم اليوم فأنا في عطلة.. أستعيد عافيتي من كدمات الألم السابقة.. لا أريد أطباقاً متنوعة ولو هدية إن كانت أطباق بؤس ومعاناة.
اليوم قررت أن أستقبل الشمس بدل استقبالها لي كل يوم.. سأصلي وأدعو وأناجي ربي وأنا أستمتع بأولى خيوط الشمس وحركات الطير.
سأتنفس بعمق لأستنشق نسيم هذا الصباح النقي، سأسلم على والدَيَّ واستمتع بذلك الدعاء الصادق الذي يخرج من قلبيهما.
سأستمتع بكتاب بعيداً عن ضجيج الركاب.. أو أغوص في بحر الذكريات لأزور أماكن وأرى وجوهاً كلما تذكرتها ابتسمت، وزادتني إصراراً أكثر على الاستمرار في الحياة.
ربما سأفاجئ خالتي اليوم برنة هاتف، أو صديقة برسالة قصيرة أو ربما سأحضر كعكة مكونة أساساً من قطرات حب أفاجئ بها والدَيَّ وإخوتي، فأستمتع بفرحهم وابتساماتهم..
إن فكرت فيما يمكنك فعله لتسعد وتنشر السعادة من حولك، لما كفتك الأيام لفعل كل ذلك، فالحياة بجمالها وحماستها وعطائها وجاذبيتها.. قصيرة!
غير أن نظراتنا القاصرة للحياة والتي تعلق سعادتنا بلحظة، بشخص، بحدث أو بمكان أو بشيء.. هي من تقزُّم الحياة في ناظرنا.. لتبدو مزدحمة بالملل والألم.
قد نظل نقرأ كلمات تحفزنا على الإقبال على الحياة، قد نمضي حياتنا نبحث عن طريقة للقضاء على الحزن.. لكن وحده عندما نقرر أن نتوقف عن البكاء، عن الندم وعن سرد خيبات الأمل.. فقط عندما نقرر التوقف عن الاستمتاع بآلامنا وآلام الآخرين.. فقط عندما نقرر أن نكون سعداء.. سنجد إلى السعادة ألف طريقة وطريقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.