يا ليتني إنسان!

فلما صارت عيوننا ما تري إلا الحروب والقتل والدمار، وكأني أشاهد الحيوانات المفترسة، وهي تنقض وتهاجم على فريستها الضعيفة وصرنا أشكالاً بني آدمية بنفس حيوان.. واختفت الإنسانية واختفى أجمل ما فيها، بل بالعكس هي كل شيء فيها.. هي عصا الإحسان ألا وهي (الرحمة).

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/27 الساعة 06:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/27 الساعة 06:28 بتوقيت غرينتش

كلما قرأت هذه الكلمة توقفت عندها وسألت نفسي، هل حقاً نعرف معناها؟ أندرك ما هي؟ هل نستوعبها بداخلنا؟

فلو كل واحد منا سأل نفسه "من أنا؟" هل نسطيع أن نجاوب على ذاك السؤال فإن على ما أظن سيكون معظمها أنا صاحب الوظيفة تلك، وأنا صاحب الرصيد البنكي، وأنا مالك العقارات، وأنا ذو مكانة وجاه، وأنا ذو الشخصية المعروفة..

ستنحصر إجابتنا بين أنا والشيء؛ لذا فلندع أنفسنا تخرج من حيز الأنا ونلمس أجمل ما فينا ألا وهي (الفطرة).. الروح التي بداخلنا وصارت في هذا العالم المادي مسجونة خلف جدار الأنا والتعلق بالحياة الزائفة، فلنعد للبداية حين ولد الإنسان ذلك الطفل الذي لا يتبع شيئا سوى فطرته، فتجده يحب من دون تميز بين لون أو ودين أو غنى وفقر، فلا يعرف شيئا سوى العطاء والمحبة، فلا يعرف للكره معنى وكل ما يسعي إليه أن يعيش في سلام دون إيذاء وأن يسعد من حوله ويرى الابتسامة على وجوههم، فكل ما يشغله سلامة قلبه وإسعاده، فتلك هي الفطرة الإنسانية التي انفطر عليها.

لكن ماذا حدث لهذا الطفل حين كبر من أين أتت تلك الوحشية التي شوهت تلك الفطرة النقية! فلما كبرنا أصبحنا نميز بين هذا وذاك، ولما صار فينا الصالح والطالح، ووجد الصراع بين الخير والشر، وصار التمييز الطبقي بين الفئات، حتى ما زالنا نخاف من بعضنا ولا نلقي السلام على بعض حتى نتجنب معرفة بعض، وعلات الأنا بداخل نفوسنا وصارت احتياجاتي ومتطلباتي فوق الجميع وعلى حساب تعاستهم وحقوقهم وامتصاص دم جهدهم وتعبهم، حتى في اختلاف الآراء بيننا فإذا لم تؤيد رأيي بات من حقي أن أخونك وأسبك وأهتك في عرضك لمجرد أن اختلفتَ معي وتنشأ وتقام الحروب ويموت الملايين.. فلمَ انتشرت تلك القسوة في قلوبنا؟! وأين ذلك الطفل البري الذي كان فينا؟ أين ذهب أين أين؟..

فلما صارت عيوننا ما تري إلا الحروب والقتل والدمار، وكأني أشاهد الحيوانات المفترسة، وهي تنقض وتهاجم على فريستها الضعيفة وصرنا أشكالاً بني آدمية بنفس حيوان.. واختفت الإنسانية واختفى أجمل ما فيها، بل بالعكس هي كل شيء فيها.. هي عصا الإحسان ألا وهي (الرحمة).. نعم حقاً نفتقد في هذا الزمن الرحمة في قلوبنا، الرحمة التي كتبها الله على نفسه فيعطي الكافر والمؤمن ولا يميز ولا يسأل ويغفر للكافر ذنوبه كلها بمجرد أنه آمن به بكل قلبه وجوارحه.. فلمَ أصبحت قلوبنا أحجاراً ونحن بشر؟ ولكن إن سألوني عن الحياة وكيف نعيشها ونحياها فقلت ما الحياة إلا إنسانية وتبدأ معرفتها بمعرفة مشرعها وصاحبها وهو الخالق وحده لا شريك له، فالمولى نفخ فينا من روحه أندرك ذلك؟! فالروح التي بداخلنا من عند الله.. تلك الروح التي تحمل أسمى وأرقى معاني الإنسانية التي أنارت جسدنا الفاني وأنارت النفس التي بداخلنا وارتقت وعلت بها من دنويتها وترابها إلى أشبه بالملائكية ألا وهي الإنسانية.
نعم فلا ننسى أن الإنسان خليفة الله في الأرض، لذا علينا أن نعرف معنى الروح ونفهم (من أنا؟) حتى لا نعيش عمرنا ونموت ولم نعرف أجمل ما فينا فلنكتشف من نحن في نوايانا ومواقفنا حتى لو صغيرة ولا نستهن باللحظات التي نعيشها..

وتبدأ معرفة تلك الروح بمعرفة أسماء الله وصفاته التي تتجلى فينا، فكل اسم من أسمائه جاء على صيغة فعيل وفعال أي صيغة مبالغة تدل على الكثرة، والتي تكون ليس لها حدود أو مثيل لو قورنت بالبشر، فهو الخالق والمصور ونحن عباده الذين نري جماله فينا، فلذا بين البشر تلك الصفات والأسماء تتمثل فينا درجات.. فمثلاً الرحمة درجات على ما أظن، أعلاها أن ترحم كل ما خلقه الله من جماد نبات حيوان، فعلينا أن نتشبه بنبينا الحبيب ومعلمنا عليه أفضل الصلاة والسلام فنجد الآية الكريمة تقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.. وكل اسم من أسمائه له درجات، فالتوكل له درجات والتسامح له درجات وهكذا.. وكل إنسان على قدر استطاعته بالارتقاء والعلو في الدرجات فينبغي أن يكون هدفنا هو أعلى شيء..

لذا فلنقف ونفكر مع أنفسنا ما نهاية هذا العالم، وبما أخرج منه هل سأخرج بشيء مالكه في يدي؟ فسنخرج جميعا كلنا بأيدي فارغة لن يبق سوى القلب بما يحمله من أسرار ونوايا لا يعلمها إلا الله وأنت فهل فكرنا حقاً في شكل قلوبنا كيف ستكون.. أقلوب إنسانية أم قلوب مادية متحجرة لا يهمها شيء سوى الأنا؟ فلنعِ ولندرك مع من سيكون اللقاء في النهاية، فالموعد مع المولى.. الحب الأول والأخير، من حُبِّه لنا أوجدنا وجعل لنا كياناً ووجوداً وصوراً وأبدع فينا وفي فطرتنا فكساها من صفاته وأسمائه المقدسة..

فلنفِق قبل الرحيل ونصلح ما في قلوبنا، فلنجعل اللقاء مع المولى بقلب سليم، فالحياة لن تطول مهما زاد عمرنا، فهي قصيرة وإن تعددت مظاهرها، فهي قشرة، فلا تجعلها تغلف قلبك فتسير تابعاً لها فتفعل أي شيء لتحصل عليها. وفي النهاية ستسرق نفسك منك، فلنعِ أنفسنا التي هي الأمانة التي أُمرنا بأن نحافظ على رقيها وعلوها..

وإنما شهوات النفس ليست بشي حقير أو موحش، وإذا كانت كذلك فلما أوجدها الله فينا فإبداع المولى لا يعيبه شيء، فقد وضع حدود وإطار لتلك الشهوات حتى تظل راقية وإنسانية ولا نصير مثل الحيوانات؛ فلذا وضع العقل والتفكير فينا حتى نبدع في رقينا بشهواتنا ونتخلص من الدنيوية أو الحيوانية ونتدرج في رقي الإنسانية..

فلنمعن بالنظر إلى الكون الذي حولنا وما فيه من جمال الصنع وننظر إلى ما فعله الإنسان من تعمير وبناء وحضارة وفكر وإبداع سنجد رابطاً بين الكون والإنسان، ألا وهو الفطرة التي داخل أنفسنا التي تبرهن بأن الخالق واحد وأن الكون مسخر لك أيها الإنسان؛ لأنك خليفة الله في الأرض، ففطرتك هي دليلك ومرشدك لتعمر الأرض؛ لذا أظن بأننا سنخطئ ونفسد لأننا لم نبحر داخل فطرتنا وبدل أن ننشغل بقلوبنا انشغلنا بأيدينا..
فالفطرة كنز ثمين كلما غصنا فيه أبدعنا، والحياة فرصة واحدة لن تتكرر فاغتنمها وعش كل لحظة في الحياة وكأنها الأخيرة لتحياها وتعطي أجمل ما عندك من مشاعر إنسانية راقية فتلمس كل لحظة وكأنها بالعمر كله، فجرب وتعلم ما هو جديد عنك في الحياة وأبدع في عطاك من مشاعرك فإنها أغلى ما تملكه لأنك حين تعطي من مشاعرك فإنك تعطي من نفسك.
فيا صديقي:

إن ما أراه بعيني شيء، وما أراه بقلبي شيء آخر.. إنه عالم ثان لا بداية ولا نهاية له، في ذاك العالم يتوقف الزمن بساعاته وثوانيه، وكلما غصت فيه وأبحرت وجدت نفسي من جديد، وكل ما أقول هذا أنا سرعان ما تنتهي أنا وتبدأ أنا من جديد.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد